Saturday, September 26, 2009

سأحـــدثـكم عـن نـــــدا

سأحدثكم عن نــدا!
مثل قطرات الندى صباح يوم صاف؛ هذه هي ندا. في العشرينيات من عمرها ، شقراء، رشيقة وتكتب القصة والخاطرة والشعر. لو توقفت عند هذه النقطة فلا جديد ، فهناك الكثيرات ممن يشاركنها نفس الصفات ولذلك لابد لي أن أكمل مستدركة ولكنها تمتاز عن باقي الشقراوات بميزة تخصها وحدها . فكل البشرعلى نفس الهيئة من أطراف وأعضاء ، أما ندا فقد خصها الله بساقين وذراعين مثل أجنحة عصفور قصيرة ، وأصابع صغيرة مثل براعم الزهور قبل تفتحها . جاءت ندا مميزة في وسط اجتماعي رغم ثرائه المادي إلا إنه لا يتحدث لغة الزهور ولا ينصت إلى تغريد الطيور . ولذلك عانت كل توابع اختلافها . عاشت ندا الحياة تفلح حينا وتخفق أحيانا كثيرة في تحمل قسوة النظرات ، وصعوبة التنقل من مكان لآخر وهي ترى النظرات تتابعها . وتسمع مصمصة الشفاة ، وتعليقات الناظرين المتابعين لكل حركة منها وهي تدبر أمرها دون معونة من أحد . وتمر السنوات ، وفي كل يوم يختصر الجميع وجود ندا في أطرافها المختلفة فقط . لم يفكر أحدهم يوما أن هناك عقل ومواهب وملكات تميز هذا العصفور الوحيد . حتى عندما ظهرت ندا ضيفة في أحد البرامج الشهيرة ، أعطاها مقدم البرنامج اللامع هديته الذهبية وهو يظن أنها تتوق إليها ، لا يعلم أن المال لم يكن يوما مشكلة لها ولا لأسرتها ، لا يعلم أن ندا تستمتع بشراء الهدايا لمن حولها وتمنح كل شئ عن طيب خاطر . اعتقد مقدم البرنامج أن مهمته انتهت فقد جعلها مادة ناجحه لبرنامجه ، وانتهى الأمر لتعود ندا إلى حياتها السابقة بأتراحها ، ولكنها الآن أصبحت أتراحا مغلفة بطبقة كلسية من خيبة الأمل في أن تحصل على اسلوب تعايش طبيعي مع من حولها الذين لا يستطيعون تجاوز نقطة اختلافها التي تجعلهم لا يرون فيها غير أطرافها الأجنحة .
تحاول ندا انهاء حياتها ثلاث مرات ، ولكنها في كل مرة تفاجأ بأن الحياة تتمسك بها . قضت عامين في دراستها الجامعية ، ثم توقفت فلم تعد تتحمل عذابات التنقل مشيعة بالتعليقات السخيفة . سجنت نفسها بين جدران منزلها . وتمر أربع سنوات عجاف على انقطاعها عن الدراسة . وفي يوم تلجأ إليها واحدة من قريباتها لتساعد ابنتها طالبة المرحلة الإعدادية التي لا تعرف القراءة والكتابة . فتبدأ معها ندا بإسلوب تعليمي فرضته عليها ظروفها المعيقة التي لا تمكنها من الكتابة على سبورة عادية مرتفعة . لم تدرك ندا وقتها أن الإسلوب التلقائي الذي اتبعته في تدريسها يعتبر من أحدث الاتجاهات التعليمية القائمة على ما يُـسمى بالتعلم النشط الذي يكون محوره الطالب الذي يقوم بنفسه باستخراج المعلومة وتحليلها واستخدامها وتدويرها في سياقات مختلفة . وهكذا نجحت ندا مع أول طالبة لتكرر التجربة وترى نجاحها يتكرر. ولكن الأمر ليس فيلما عربيا لينتهي عند هذا الحد بابتسامة يضعها المخرج على وجه الجميع . فندا تتعرض للإستغلال مثل غيرها ممن لهم ظروف مشابهة . فعندما تقرر الاهتمام بالجانب الأدبي لموهبتها وتذهب لصحيفة ما تُفاجأ بأن الصحفي يعرض عليها عمل تحقيق مصور عنها وعن حياتها اليومية وتنقلاتها متجاهلا أنها جاءت تتحدث بعقلها عما يدور داخله ، في حين أنه لا يرى فيها غير جسد مختلف يصلح ليكون مادة تحقيق ملئ بصور ندا عارضا إياها للفرجة في صحيفته ليحصل على موضوع يتيه به على زملائه . ويتكرر العرض عليها عندما تتواصل مع بعض البرامج الحوارية فيكون اللقاء المصورهو العرض المشترك والمتفق عليه بين الجميع ،فالجميع يريدون صورا للعرض.
المشكلة ليست مشكلة خاصة و الموضوع ليس موضوع ندا وحدها ، المشكلة تتعلق بكيفية التعاطي مع انسان له ظروف معيقة لم يكن له دخل فيها ولا مجال أمامه لتغيير قدره هذا. وفي نفس الوقت له مشاعر وأحاسيس تتعرض للخدش في كل لحظة ليقع تحت عبء اختلافه وعبء نظرات الإستهجان المصوبة عليه في كل لحظة. بعد لقائي بندا أدركت أن المشكلة تكمن في ثقافتنا الضحلة والمخزية في التعامل مع الآخر المختلف عنا في أي شئ سواء في الدين أو اللون أو الشكل الخارجي ، هو إرث ثقافة رجل الغاب الذي إن رأى عصفورا زاهي الألوان فلابد من وضعه في قفص للفرجة ؛ هذا إن لم يقتله . فعلى الرغم من المستوى الثقافي والمعرفي لأغلب من تحدثت معهم ندا إلا أنهم وللأسف لم يتجاوزا في تفكيرهم نقطة التعامل مع المظهر الخارجي لها . بل لو نظرنا نظرة سريعة إلى البرامج التليفزيونية ، سنجد أنها الآن تتبع اسلوب الإثارة والفرقعة في التعامل مع المشاهير.، أما فيما يتعلق بالبسطاء ، فهي تتبع إسلوب الابتزاز العاطفي للجمهور والتشهير بالضيف الذي يظهر وكأنه طفل الغاب ماوكلي العائد من الأدغال وهو تحت الأضواء التي يصر المخرج على تسليطها عليه وقت دخوله ومصافحته لمقدم البرنامج ، تغلبه مشاعر الدونيه والخوف ، ثم يسلطها عليه مرة أخرى أو بالأحرى يسلطها على عينيه التي يكتم فيهما دموع "الفضح" أمام خلق الله في حين أنهم يحسبونها دموع "الفرح "بهدية البرنامج الذي عرضه للفرجة على الناس في قفص ملون له صوت وأزرار وريموت .
أليس من حق ندا وغيرها ممن لهم مواهب وملكات في شتى المجالات أن نتجاوزنقطة اختلافهم المتعلقة بالجسد لنتعامل معهم بما يليق بجوانب تميزهم؟ أم سنظل ننظر إلى بقعة واحدة سوداء متجاهلين باقي لوحة أبدعها مبدع له في خلقه شؤون؟
تُرى ماذا كان وضع هيلين كيلر لو نظر لها مجتمعها على أنها الصماء البكماء العمياء فقط؟؟ من المؤكد أنها لو كانت لدينا في مجتمعاتنا العربية لكان مصيرها عتبة مسجد تتسول عليها
مجلة أكتوبر العدد1718 !!

Sunday, September 13, 2009

"فـــي انتظــــار القــادم" وتيمــة الرحيــل


"في انتظار القادم" ؛مجموعة قصصية ، جاءت كل قصة فيها كجرعة مكثفة،أوكدفقة شعورية مركزة و متماسكة تتمثل فيها مقولة يوسف ادريس "إن القصة القصيرة مثل الرصاصة تنطلق نحو هدفها مباشرة " فلا كلمة زائدة أو بلا عمل، فمن أول استهلال مع أول كلمة تظهر معالم اسلوب "محمد عطية محمود" السردي البعيد عن الحشو والترهل . فهو لا يقدم القصة الحدوتة، بل القصة الرمز، ولكن الرمز في قصصه ليس من النوع الذي يحيل إلى عالم الماورائيات المستحيل ، بل إلى عالم التوحد مع الذات أو الحنين إلى روح الأصالة المفتقدة لتأتي قصصه مثل نفحات روحية وجدانية ، وكأنما تفوح منها رائحة البخور الذي يعيد الانسان إلى عبق ذكرياته البعيدة التي تحدد هويته.
يقدم "محمد عطية محمود" في مجموعته القصصية لقطات لأوجه الحياة التي لا تستقر ، يبرز فيها لحظات حياتية بعينها تعكس فكرته أو تيمته الأساسية وهي أننا كلنا على سفر، ومن على سفرفهو كالغريب وإن طال مقامه فهو عائد إلى مكان اقامته الدائمة حيث تنجلي كل الأحزان. ولذلك لا توجد قصة واحدة يسودها استقرار بيت هادئ أو أسرة وعائلة مكتملة . بل جاء الفضاء المكاني الذي تدورعليه احداث قصص المجموعة ليشير إلى فكرة السفر أو الرحيل وعدم الاستقرار مثل ( شرفة ،باب، مقهى ، عيادة طبيب، درجات السلم ، غرفة العناية المركزة، شركة توظيف ،حوض السفن، القبور، الطريق العام، طريق ليلي،طوار المحطة ، عربة أجرة ،الترام ، ظهر دولاب ، حديقة عامة، سلم البيت ، رصيف ، مكتب مدير العمل ،ميدان محطة الرمل ،أو حتى لا مكان كما في القصة الأخيرة ). أما السفر فقد جاء أولا : بمعناه المعتاد كانتقال مكاني ، أو المغادرة من مكان إلى آخر في قصص مثل (شنطة حليمة ،صباح قباري المنور، مخيلة البهجة ،اختراق ،هوية ، وردية ،المروحة، توحد ،نصف حلم نصف روح ، تجليات الخفة ،هيستريا ،نظرتان ،مغادرة ) . وثانيا :هناك بعض القصص التي تتناول تيمة السفر كرحيل أخير عن العالم وتشير إلى شخوصها الذين على وشك عبور حاجز العتمة (غيبوبة ، فواصل ضيقة ،افاقة). وثالثا :هناك السفر الداخلي أو التوحد مع الذات عن طريق حلم ، أو استرجاع ذكريات بعيدة تحضن حنينا لعوالم دفء فائتة (شرفة ،غصة ، اشتهاء ،طقوس للرؤية ،العام الثاني والعشرون).
وعلى التوازي هناك الشخصيات التي تستعد للسفر والرحيل والذي يجمع بينهم صفة مشتركة ؛ أنهم من الصف الثاني من البشر.فالمجموعة تتحدث عن حيوات الشخصيات السنيدة أو الكومبارس الذين لا أمل أمامهم في تقلد سيف البطولة، فقد همشتهم الحياة وأصدرت حكمها عليهم بالاقصاء كأمر واقع ، ذلك في الوقت الذي لا تستقيم فيه الحياة بدونهم فأبطال المجموعة على شاكلة (رجل مسن ،حليمة العجوز، قباري الحمال أو العتال، فني الغلايات الذي يعمل تمرجيا ، صاحبة القطط الوحيدة ، باحث عن وظيفة ، أب مقهور ماديا ،عامل الوردية الليلية ، امراة عجوز، راكبي الترام من مراهقين ومشاغبين، بائعة الحلوى ، لاعب مضطهد ،رجل بلا مأوى ...) وغيرهم . وما يجمع كل شخوص المجموعة أيضا ، أنهم جميعا في حالة ترقب ، في حالة انتظار للقادم ، الكل ينتظر تبدل الحال وانفراج الأزمة وهذا ما يشي به عنوان المجموعة نفسها .
وفي تقديمه لشخوص مجموعته، يهتم القاص بتقديم الشخصيات تقديما كاملا متناولا البعد الجسدي لكل شخصية واصفا التكوين الجسماني والطريقة التي يتحركون بها، بل لم يترك تعريجة على يد، أو بسمة أو تقطيبة على وجه إلا ووصفها بدقة .اهتم أيضا بالسمت الاجتماعي للشخصية واصفا العمل الذي تمتهنه وظروفها الاجتماعية التي تعايشها لتتمثل مقولة هنري جيمس "تنجلي الشخصية في تلك الأشياء التي يختارها أو ينبذها المرء". ثم يمتد اهتمامه إلى البعد النفسي لكل شخصية يرسم ما تعانيه من طموحات وآمال واصفا ما تسببه حالة الانتظار والترقب من توترات أومن خيبات للأمل أو من تداع للذكريات. وإذا نظرنا إلى اختيار أسماء شخوص المجموعة كطريقة لرسم الشخصية ، سنجد أن القاص لم يهتم في أغلب القصص بالأسماء لأن الحدث هو المهم وهو البطل ، ولكن في بعض القصص جاء استخدامه للأسماء ذا دلالة فمثلا "شنطة حليمة" جاء اسم حليمة المشتق من الحلم ليعبر عن حال حليمة الصابرة والمسامحة والجلدة ولربما الحالمة أيضا بتغير الحال .
بل إنه في وصفه يسقط على الجماد الصفات البشرية يخلق به تناغما بين الجماد والانسان في علاقة غير منفصلة ، ففي حالة الحنين يتفاعل الجماد مع الانسان و تتداخل ماهيات الأشياء "يستفيق الترام من سبات قصير...تتثاءب عجلاته ..".(نصف حلم ..نصف روح)
وعندما يصف الكاتب كل هذه الشخصيات والبيئة المحيطة بها، فهو يبدو وكأن ملامحهم قد حُفرت في ذهنه أوكأنه يضعهم أمامه يرسمهم بفرشاته الملونة المحبة لكل شخصية ، فهو يكتب كما قال هيمنجواي "أكتب عما تعرفه". ولذلك جاءت شخصياته حقيقية وبالتالي فما يحدث لها ومنها واقعي وحقيقي أيضا ، مما يؤدي إلى التأثير في القارئ الذي يستجيب متعاطفا مع الشخصية أو كارها لها .
ومن النظر إلى لغة القص في المجموعة نجدها فنية حيوية تحمل دلالات واضحة لترسم الموقف بجانبيه الخارجي والداخلي في نظرة استبطانية عميقة. بل يبدو وبوضوح تعاطف القاص مع شخصياته بل منخرطا معهم . ويتضح ذلك في حرصه على تنوع مستويات السرد في المجموعة بل وفي القصة الواحدة ، فهو تارة يبدأ بضمير الغائب ثم يلجأ إلى ضمير المخاطب في تنقلات غير مقحمة تزيد من حميمية العلاقة بين الكاتب وشخوصه ، في حين جاء استخدامه لضمير المتكلم قليلا بالمقارنة بين ضميري الغائب والمخاطب .
بقيت الإشارة إلى قصتين "تسلل" و "العام الثاني والعشرون" ففي "تسلل"تتجلى مقدرة القاص الفائقة في رسم الشخصية دون التصريح بلفظ واحد صريح ،ومن خلال الحدث الصغير تنجلي القصة الكبيرة للمؤامرة التاريخية. وتأتي "العام الثاني والعشرون" بضمير المتكلم ذاتية الجرح والحنين للغائب بجسده الحاضر بروحه لتغلق دفتر الحنين الذي فتحه محمد عطية محمود ب"شرفة" وأغلقه ب"العام الثاني والعشرون".
مجلة أكتوبر العدد1716

انتصار عبد المنعم

Sunday, September 06, 2009

القصة والرواية ..حديث لا ينتهي

القصة والرواية ..حديث لا ينتهي
اهتم كتابنا الكبار بكتابة الرواية كجنس أدبي وجدوا أنه الأنسب كوعاء لأفكار وأحداث كثيرة لا تتحملها القصة القصيرة ، وامتلأت الساحة بالروايات التي تلقفتها وسائل الاعلام محتفية ومروجة . ثم جاء حجب جائزة الدولة التشجيعية للقصة القصيرة لعام 2007. ،وتم منح جائزة يوسف ادريس في القصة القصيرة للقاص العماني سليمان المعمري ، ليعتبره البعض أنه خير برهان على وفاة القصة القصيرة ،وأن مصر أصابها العقم لتنجب قاصا واحدا. وخرج علينا بعض المتطوعين ليعلنوا موت القصة القصيرة وأن زمنها قد ولى وراح مستشهدين بكتاب الدكتور جابر عصفور "زمن الرواية".
ومؤخرا ، عاد بعض الروائيين الكبارلكتابة واصدار مجموعات قصصية ،خاصة هؤلاء الذين ارتبطت أسماؤهم بجوائز كبرى مثل بوكر ، فالروائي مكاوي سعيد صاحب "تغريدة البجعة" التي وصلت إلى القائمة القصيرة ، أتبع روايته بمجموعة قصص قصيرة "سري الصغير" ،والروائي بهاء طاهر صاحب "واحة الغروب "التي نال عنها الجائزة أصدر أيضا مجموعة قصصية بعنوان" لم أكن أعرف أن الطواويس تطير" وغيرهما من أصحاب الأقلام المميزة .
وللعجب أننا نجد فجأة من يتحدث متحمسا معلنا عن عصر البعث والنشور للقصة المقبورة . ومع خالص احترامنا لكل كتابنا الذين تعلمنا منهم وتتلمذنا في مدارسهم ، فإنه من الغبن والظلم أن يقوم تاريخ القصة على أسماء بعينها ، إن هجروها فهي متروكة مقبورة ،وإن كتبوها فهي حية ترزق، ليصبح تاريخ القصة مرتهنا بما يكتب هؤلاء العظام المستأثرين بالاهتمام الاعلامي منذ شروعهم في كتابة أول سطر في الرواية وحتى انتهائهم من الكتابة لتبدأ مرحلة أخرى من الاهتمام على يد مجموعة النقاد التي لا تضيع تلك الفرصة في الكتابة عن الروائي المعروف أملا في بقعة ضوء تـُُسلط على أسمائهم هم . فأي مكسب سيجنيه الناقد من وراء اضاعة الوقت في القراءة و الكتابة عن قاص مغمور لم يعرف طريقه إلى زمرة المروجين للأصحاب والزملاء بنظام "واحدة عندك وواحدة عندي"؟
هل ضياع الاهتمام الاعلامي بالقصة القصيرة يـُعد مسوغا لإعلان الوفاة؟ وماذا عن كتاب القصة القصيرة من خارج دائرة الضوء القاهري القهري البارعين والذين تمسكوا بها على الرغم من كل المعوقات ،هل نستخرج لهم شهادات وفاة رسمية أيضا؟؟ فكتاب مثل محمد عطية محمود ويحيى فضل سليم وصلاح بكر اخلصوا للقصة القصيرة التي اتخذت شكلها المميز من البحر والساحل والميناء والرمال فكانوا مثل البحارة الذين لم يتخلوا عن سفنهم حتى وإن قال لهم القائلون أنها تغرق.وهل من الممكن أن يموت جنس أدبي استخدمه محمد حافظ رجب ويوسف ادريس؟؟
القصة القصيرة كانت متواجدة دوما ولكن في دائرة التهميش والاقصاء ،فالاهتمام بالرواية والذي تصاعد خاصة بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988، جاء على حساب القصة القصيرة التي لم تجد لها مكانا ولا جوائز مميزة ترصد لها ،في الوقت الذي ظهرت فيه النسخة العربية لجائزة بوكر في الرواية والتي أصبحت مطمح كل الآمال وقبلة الأبصار كل عام ،حتى بات جليا أن البعض يكتب روايته وعينه على بوكر بعد أن أصبحت نوبل بعيدة المنال ،والتي هي الأخرى انحازت إلى الرواية فلا يوجد- على حد علمي -من بين الحاصلين على جائزة نوبل واحد من كتاب القصة القصيرة ..
ولأن الرواية أصبحت الجنس الرابح خاصة لو تضمن قصة فضائحية أو بعض السباب أو بعض الخلافات العقائدية فقد تسابق الجيل الجديد من الأدباء تتوالد من بين أيديهم الروايات كالأرانب والفئران، لتظهر ظاهرة رواية لكل مواطن ، وشعار أفضل المبيعات للرواية التي لم يتجاوزعدد نسخة الطبعة فيها المائتي نسخة تم توزيعها على النقاد من المعارف ، والأصدقاء العاملين في مجال الصحافة الأدبية ليقوموا بدورهم في الترويج للإخوة الزملاء . فأصبحت الأضواء مسلطة على فئة معينة خدمها التوزيع الجغرافي ليكونوا في بؤرة الاهتمام القاهرية حيث تتواجد مقرات الصحف والمجلات وجلسات المعارف التي يتم فيها تحديد الأدوار وتوزيعها على الأصدقاء الذين بيدهم نشر قصة هذا أو الترويج لرواية يفكر فيها هذا الألمعي ، أو رحلة هذا الصديق إلى بلاد السند فاتحا ؛من أجل الصداقة والأمسيات المميزة التي تجمع المقربين فقط وتكون كفيلة بتعويض الناقص في الموهبة ذاتها ببعض الترويج الذي يرمم الجوانب المتهالكة في أي عمل أدبي كتبه شخص سعيد الحظ والطالع . وفي ذات الوقت ينصرف الاهتمام بعيدا عن الأدباء الذين ساقهم حظهم العثر والتوزيع الجغرافي الذي اصطلح على تسميته "الأقاليم" فحلت عليهم لعنات وتنزلت عليهم أوبئة التهميش ونظرات الاستعلاء حين يرسلون بأعمالهم إلى القائمين على الصفحات الأدبية في الصحف أوالمجلات الأدبية المتخصصة .بل ومما زاد من سوء طالع هؤلاء أن يتحالف ضدهم التوزيع الجغرافي مرة أخرى وهم يشاهدون كيف أن صحفهم تفتح صفحاتها للأصدقاء من قاطني بلدان بعيدة لا تتحدث العربية ليصبح لهم مكان مميز جاهز لنشر أعمالهم فور شروقها على صفحات البريد الالكتروني للصديق المسئول ؛فقط لأنهم يكتبون اسماءهم العربية القحة مذيلة بهذا النيشان "مقيم في ميونخ أو السويد" مثلا.
كنا نتندر يوما على هذا الأمر فجاء اقتراح وجيه على لسان صديق من"عزبة البرج" بأنه سيتلاعب ببعض الأحرف في اسم مدينته ليكتب أسفل اسمه "بطرسبرج"تلك المدينة الواقعة فى شمال غرب روسيا، حيث يتلاقى نهر نيفا مع خليج فنلندا على بحر البلطيق، بدلا من "عزبة البرج" الواقعة شمال دمياط على الضفة الشرقية لنهر النيل التعيس ،كحل أخير لمسألة عقدة الخواجة في ساحة النشر في الصحيفة ذائعة الصيت والسطوة ،ثم أخرج لنا من جيبه خريطة يوضح عليها أوجه التشابه بين جغرافيا بطرسبرج وعزبة البرج ، متعمدا لفظ اسم مدينته على وزن كلمة المدينة الأوروبية ، ونحن نضحك على طريقته وعلى فكرته الجديدة ، نكتم في قلوبنا دمعة متحجرة على واقعنا الثقافي المتأزم .
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر عدد
/5/9/2009/1715