Tuesday, December 22, 2009

أدباء العرب ونظرية المؤامرة

تهيمن على الفكر العربى الجمعى ما تعارف على تسميته «بنظرية المؤامرة» وذلك لتفسير أو لتبرير سيل الأحداث المتسارعة على كل الأصعدة ، وخاصة التاريخية والسياسية منها ، والتى يكتنفها دوما الغموض وتخضع للشد والجذب من أطراف عديدة تسيطر على المشهد العام . ولكن اللافت أن استخدام وتفسير الأحداث استنادا إلى نظرية المؤامرة آخذ فى التوسع والانتشار يوما بعد يوم ، حتى أصبحت شماعة يتصيد بها البعض أخطاء آخرين ، أو لاعطاء سبب أو تفسير لحدث لا يعلمون عنه الشئ الكافى ؛ تماما مثل المنجمين الذين يحيلون سوء الطالع إلى النجوم وحركة الكواكب . فمن تستهويهم نظرية المؤامرة يجدون فيها حلا سهلا وميسرا وقاطعا لا نقاش فيه لمشاكل مزمنة أو عصية على الفهم والتعاطى كأى حدث آخر .وهكذا يحيل عامة الناس مشاكلهم إلى الأعمال السُفلية التى يقوم بها الجان ومردة الشياطين ، و الطالب الراسب يبرر رسوبه باضطهاد المدرس له، و الذى يتعثر بحجر على باب منزله يشك فى تآمر جاره عليه بدلا من أن يفكر أنه ربما سقط من بيته الآيل للسقوط ، و لا يجد العاطل عن العمل غير أن يزعم أنه ضحية الاضطهاد والتمييز من نوع يختاره على مقاسه وفقا لمذهبه الدينى مثلا أو انتمائه السياسى كحل سريع يوظف فيه نظرية المؤامرة ليصبح ثوريا وداعيا إلى الحرية والعدل والمساواة تتهافت عليه بعض الجهات ويصبح مناضلا تنطبق عليه مقولة مارك توين «من السهولة أن تجعل الناس يصدقون كذبة، ومن الصعوبة إزالة تأثيرها عليهم». لتصبح نظرية المؤامرة الحل الشافى لتبرير كل خسارة وكل هزيمة وكل مرض .فانفلونزا الطيور مؤامرة من شركات الأدوية الغربية التى تريد الترويج لبضائعها وانهاك الشعوب العربية الرشيقة القوام جميلة القد بالمرض ، ولقاح انفلونزا الخنازيز مؤامرة لنشر مرض «متلازمة جوليان باري» الذى يؤثر على الجهاز العصبى وذلك لرفع نسبة الجنون والعته بين شعوبنا العربية المتوازنة العاقلة ، وتوتر العلاقات بيننا وبعض الدول مؤامرة لصالح الصهاينة ، والقنوات الفضائية الفنية مؤامرة صهيونية لإفساد الشباب رغم أن مالكيها عرب مثلنا ، حتى المشاكل الإجتماعية الناتجة عن سوء التربية داخل المنزل أصبحت مؤامرة من الغرب الشرير على الشرق الاسلامى الوديع المستهدف دوما فى نظرهم. حتى تحولت هذه النظرية إلى ما يشبه المرض النفسى ، بل من الممكن أن نطلق عليه «مؤامرة فوبيا» ، والحق هو ليس باختراع غربى كما يشاع عنه ، بل إن نظرية المؤامرة هى مجرد تسمية مستحدثة لما نعرفه بسوء الظن ، وسوء الظن هنا ثقافة عربية متوارثة خلفتها تراكمات قديمة مرتبطة بشكل أوبآخر بفكرة العداء القديم مع الدول الغربية التى ارتبط اسمها بفترة الاستعمار والحركات التحررية والثورات .. وبنظرة على عالم المثقفين والأدباء نجد أن الوسط الأدبى أو المشهد الثقافى العربى الراهن لم يسلما من نظرية المؤامرة أيضا . فمن البديهى أن فوز أديب ما بجائزة يستلزم أن يكون هناك من لم يفز بها ، ولكننا وللأسف نعانى من ضياع ثقافة تقبل الخسارة مثل تقبل الفوز ، لا بدائل لدينا ، وكما يطالب كل الآباء أبناءهم بالحصول على المركز الأول ، يفعل الأدباء اليوم . فإن لم يحصلوا على الجائزة فالفائزون عملاء وخونة ، لهم وسائط وصلات بالمحكمين ، وإن كان الفائز من جنس النساء فهى سيئة السلوك ونالت الجائزة ليس عن مجال الأدب بل عن «قلة الأدب»..وإن تعددت الجنسيات المشاركة فى مؤتمر أو جائزة مثلا ، تتطور نظرية المؤامرة لتتعدى الحدث نفسه وتنسحب على الدول وسياستها العدائية ضد المثقفين من الدول الأخرى ، وتتجاوز المشهد الأدبى المعنى بالحدث ويتم تحميل الأمور ما لا تحتمل من نقاشات وسجالات عقيمة وهذا تما ما ماحدث مؤخرا فى ملتقى القاهرة للقصة القصيرة . ففى الجلسة التى ترأسها الأديب الكبير يوسف القعيد ، كان على الناقد الدكتور عالى القرشى أن يلقى ورقة بحثية عن القصة القصيرة فى المملكة العربية السعودية . وعندما استوقف القعيد الدكتور القرشى طلبا للمزيد من المعلومات عن شخصه ثم مناقشا للورقة وطلبا للإختصار لأسباب تتعلق كالعادة بأمور تنظيمية تعودنا على وجودها فى كل المؤتمرات ، تم تحميل هذا الحدث الكثير من سوء الظن ، وتضخم الموضوع من شيء يتعلق بالأديب يوسف القعيد وحده وضمن سياق محدد ، و تم إرجاعه وعلى الفور إلى نظرية المؤامرة ليكتب أحدهم عن التهميش الذى يمارسه أدباء «مصر» ضد أدباء الدول العربية ، وأن عدم معرفة القعيد بالقرشى عيب وذنب لا يغتفر ،وأن ذلك تقليل من شأن القصة القصيرة فى المملكة . بل تطور الأمر فى تعليق كان مليئا بالأخطاء اللغوية لأديبة وصحفية ناشئة إلى أن القعيد تملكته الغيرة من ورقة الدكتور القرشى : «... ليس من حق مدير الندوة أو الأمسية أن يستعجل المشارك أبدا ، كون الدكتور مدعوًا من المجلس الأعلى للثقافة ولكن اخواننا المصريين دوما يصرون على أنهم الأفضل والأقدر ومع احترامى للإعلام فهم ليسوا كذلك ، وما حدث أنا شخصيا لا أفسره إلا غيره من الورقة التى بين يدى الدكتور ..» .ثم قفز الأمر لتتكاثر نظرية المؤامرة وتنجب العديد من التفسيرات تتعلق بالدولة كلها والهيمنة التى تريد فرضها على الجميع وتهميش الآخرين من المثقفين من خارجها . ومع كل تعقيب يكتبه أديب مثقف تخرج لنا نظرية المؤامرة لسانها ساخرة من تقزم العقول العربية التى مازالت تعيش عصر الحلول الغيبية لأمراضها العضال ؛ فمصباح علاء الدين وحده سيحل مشاكلنا المزمنة ، والمنجمون فى يدهم تفسير وشرح أسباب هزائمنا فى كل المجالات أمام دول العالم التى تتسابق نحو الفضاء ، فى الوقت الذى مازلنا فيه كمثقفين وأدباء نشد بعضنا البعض نحو الهاوية نبحث عن تميمة أوتعويذة لفك عقدة «نظرية المؤامرة
مجلة أكتوبر العدد1730».

Sunday, December 13, 2009

«ماركيز».. دروس فن الحياة


منذ سنوات عندما أشيع نبأ اعتزال ماركيز للكتابة، ظهر ماركيز بنفسه لينفى هذا النبأ، ويثبت أنه يعيش ليكتب.. والآن يتكرر هذا الأمر وتتناقل بعض الوسائل الإخبارية تصريح الوكيلة الأدبية للروائى الكولومبى الشهير جابرييل جارثيا ماركيز بأن الكاتب الكبير سيعتزل الكتابة بعد أن سبق له اعتزال الحياة العامة فى الفترة الأخيرة بسبب تدهور حالته الصحية، وللآن لم يظهر ماركيز ليخبرنا أنه سيعيش ويكتب رغما عن مرضه.ماركيز، الأديب الكولومبى الأشهر ولد فى عام 1928 فى مدينة «أركاتكا» شمال كولومبيا، وحصل على جائزة نوبل فى الآداب عام 1982 عن رائعته «مائة عام من العزلة» وغيرها من الأعمال الذى شكلت عالمه الواقعى السحرى مثل «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه، خريف البطريرك، والحب فى زمن الكوليرا». كتب ماركيز سيرته الذاتية «عشت لأحكى» كاشفا دقائق حياتية قد يخجل كثيرون من ذكرها ولو عرضا، كتب عن حياته وما عاناه فى سبيل العلم والعمل، وعن مهنته كصحفى وعن توجهاته فى الكتابة والحياة، كتب عن حياة المنفى والفقر الذى عاشه فى باريس، وعن عودته الى أمريكا اللاتينية، ولقائه بالرئيس الكوبى فيديل كاسترو فى العاصمة الفنزويلية، والثائر الأرجنتينى تشى جيفارا. تتناقل الآن نفس المصادر رسالة كتبها ماركيز من على فراش المرض يودع بها الأصدقاء. هذه المرة لدينا رسالة منسوبة إلى الكاتب الكبير يوجهها إلى من أمامه فرصة ليعيش وأن يمتد به الأمل. ولكن وإن كانت الرسالة تصدر من ماركيز الذى اشتد عليه المرض، فهى ليست وصية شخص يتأهب للموت، بل هو كلام شخص أدرك معنى الخلود وقيمة الحياة، ولذلك يأبى أن يرحل دون أن يورثها لمحبيه فى أرجاء الأرض جنبا إلى جنب مع أعماله الأدبية التى فرض من خلالها اسلوبا متفردا، يغرى بمواصلة القراءة وتتبع الأحداث بل وتتبع صدور الجديد مما يحمل بصمته المميزة.جاءت وصية ماركيز مثل دروس فى فن الحياة والتمتع بدقائقها، والتلذذ بمباهجها وكيفية إضفاء البهجة على من يقتسمون معنا حق التواجد والعيش. يقول ماركيز فى رسالة الخلود: «لو شاء الله أن ينسى أننى دمية وأن يهبنى شيئاً من حياة أخرى، فإننى سوف أستثمرها بكل قواى. ربما لن أقول كل ما أفكر به لكننى حتماً سأفكر فى كل ما سأقوله. سأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه. سأنام قليلاً، وأحلم كثيراً، مدركاً أن كل لحظة نغلق فيها أعيننا تعنى خسارة ستين ثانية من النور. سوف أسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكلّ نيام. لو شاء ربى أن يهبنى حياة أخرى، فسأرتدى ملابس بسيطة وأستلقى على الأرض، ليس فقط عارى الجسد وإنما عارى الروح أيضاً.«سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقاً متى شاخوا، دون أن يدروا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق. للطفـل سـوف أعطى الأجنحة، لكننى سأدعه يتعلّم التحليق وحده. وللكهول سأعلّمهم أن الموت لا يأتى مع الشيخوخة بل بفعل النسيان. لقد تعلمت منكم الكثير أيها البشر.. تعلمت أن الجميع يريد العيش فى قمة الجبل غير مدركين أن سرّ السعادة يكمن فى تسلقه».«تعلّمت أن المولود الجديد حين يشد على اصبع أبيه للمرّة الأولى فذلك يعنى أنه أمسك بها إلى الأبد».«تعلّمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر؛ فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف».«تعلمت منكم أشياء كثيرة! لكن، قلة منها ستفيدنى، لأنها عندما ستوضب فى حقيبتى أكون أودع الحياة».قل دائماً ما تشعر به وافعل ما تفكّر فيه. لو كنت أعرف أنها المرة الأخيرة التى أراكِ فيها نائمة لكنت ضممتك بشدة بين ذراعى ولتضرعت إلى الله أن يجعلنى حارساً لروحك. لو كنت أعرف أنها الدقائق الأخيرة التى أراك فيها، لقلت «أحبك» ولتجاهلت، بخجل، أنك تعرفين ذلك. هناك دوماً يوم الغد، والحياة تمنحنا الفرصة لنفعل الأفضل، لكن لو أننى مخطئ وهذا هو يومى الأخير، أحب أن أقول كم أحبك، وأننى لن أنساك أبداً. لأن الغد ليس مضموناً لا للشاب ولا للمسن. ربما تكون فى هذا اليوم المرة الأخيرة التى ترى فيها أولئك الذين تحبهم، فلا تنتظر أكثر، تصرف اليوم لأن الغد قد لا يأتى ولا بد أن تندم على اليوم الذى لم تجد فيه الوقت من أجل ابتسامة، أو عناق، أو قبلة، أو أنك كنت مشغولاً كى ترسل لهم أمنية أخيرة. حافظ بقربك على من تحب، اهمس فى أذنهم أنك بحاجة إليهم، أحببهم واعتن بهم، وخذ ما يكفى من الوقت لتقول لهم عبارات مثل: أفهمك، سامحنى، من فضلك، شكراً، وكل كلمات الحب التى تعرفها. لن يتذكرك أحد من أجل ما تضمر من أفكار، فاطلب من الربّ القوة والحكمة للتعبير عنها. وبرهن لأصدقائك ولأحبائك كم هم مهمون لديك.تلك كانت رسالة ماركيز، وسنظل ننتظره، ليخرج علينا مرة ثانية يكذب خبر اعتزاله، وليعطينا المزيد من دروس فن الحياة والخلود
انتصار عبد المنعم.
مجلة أكتوبر العدد1729

Monday, November 30, 2009

الثقـــافة... المفهــوم.. والأزمـــة


وتبقى كلمة «الثقافة» كما هى واسعة الانتشار سهلة اللفظ، ويبقى مفهومها غامضا ملتبسا، وهذا ما جعل بعض المثقفين ممن يهتمون بالشأن الثقافى يكتبون موضحين إشكالية المفهوم والتناول. ويأتى كتاب «الهجرة إلى الداخل» للناقد والكاتب الصحفى أحمد سماحة ليضم مجموعة من المقالات المعبرة عن تلك الإشكالية سواء فى مفهوم الكلمة نفسها أو فى الواقع الثقافى بوجه عام.ففى مقال «الثقافة المفهوم والأزمة» يشير سماحة إلى الخطأ الشائع الذى يقتصر فيه الاهتمام بالأفكار كترجمة وحيدة للثقافة أو أن يكون الكتاب والشعراء هم أهل الثقافة دون غيرهم. بل يدلل على تجاوز المعنى القاصر المتعلق بالأفكار ليشمل ما هو أوسع وأشمل مثل التراث سواء كان ماديا أو روحيا. يقول: «فبقدر ما يكتسب هذا الفرد من هذا التراث ويتفاعل معه تكون ثقافته وأسلوب حياته وفهمه للأشياء وموقفه منها- أى صلته بها- وبقدر ما يكون الوعى بكيفية نقل هذا التراث إلى الفرد- التعلم- وتوجيهه بقدر ما يكون وعياً لمفهوم الثقافة».يناقش الكاتب أيضا الحديث الدائر عن أزمة الثقافة يطرح بعده عدة أسئلة ليفتح باب النقاش من أجل بيان أسباب الأزمة وتحديد سبل مواجهتها. ولا ينتهى شأن الثقافة بانتهاء هذا المقال بل يمتد لمقال آخر تحت عنوان «قضيتان فى الفكر والثقافة»،مشيرا إلى ضياع الاهتمام بالقراءة كوسيلة من وسائل المعرفة وتكوين الهوية، ويذكر إحصائية هيئة اليونسكو لعام 80 التى ذكرت أن « أوربا الغربية التى يسكنها 4.5 فى المئة من سكان العالم، تقرأ 29 فى المائة من الصحف الصادرة فى العالم، و 45 فى المائة من الكتب التى يقرؤها العالم « بينما يبلغ تعدادنا كعرب أيضا 4.5 فى المائة من سكان العالم، ولا نقرأ ما يتجاوز نسبة (1 فى المائة) من الصحف، وأيضا (1 فى المائة) من إنتاج الكتب فى العالم. وتحت عنوان «الثقافة البصرية وإشكالية التلقى» ذكر أحمد سماحة أن التلقى البصرى أصبح من العناصر المهمة فى تشكيل الوعى لدى قاعدة واسعة من المتلقين الذين كانوا يواجهون صعوبة التلقى عن طريق الكلمة المطبوعة «..لكونه يملك التغير النوعى فى الخطاب الذى يبثه، وله طابعه التأثيرى المباشر، وجمالياته الخاصة، وقدرته الفائقة على الإيهام بالمصداقية، ولأنه يموج بالحركة التى هى سمة الحياة».وإذا كانت المقالات السابقة تتناول الثقافة فهناك غيرها تتناول المثقفين، ففى مقاله «الهجرة إلى الداخل» يذكر سماحة هجرة الكاتب الألبانى إسماعيل قدرى إلى باريس، تاركا وراءه فى وطنه رصيدا طويلا من الإبداعات والانجازات، وبعد أن كافح طويلا من أجل التغيير وحرية الإنسان، ترك كل هذا ليعيش هجرته فى باريس. وفى المقابل تأتى هجرة الكاتب السوفيتى الراحل سولجنستين التى اختارها لتكون هجرة أو عودة إلى الداخل بعد أن عاش فى المنفى طويلا ونال من الشهرة فى خارج بلاده ما نال. لا يعطى سماحة تفسيرات ولا مبرارات لموقف الكاتبين، بل يرصد الحالة «ليبقى السؤال لماذا؟ متأرجحا بين الداخل والخارج لا يجد الإجابة متى بقيت إنسانية الإنسان موضع انتهاك ومساومة».وعن جائزة «نوبل.. البريق واللعنة» يربط سماحة بين لعنة نوبل ولعنة الفراعنة فى المصير الحزين الذى كان من نصيب من نال الجائزة العالمية، فالشاعر الإيطالى جيوس كاردوكس الذى حصل عليها عام 1906 توفى بعد أربعة شهور، والروائى الإنجليزى جالسورنى توفى بعد شهرين من حصوله على الجائزة عام 1932، وسارتر مات بعد ستة أشهر، أما إرنست هيمنجواى الذى نال نوبل عام 1954 فقد انتحر بإطلاق الرصاص على نفسه، والروائى اليابانى كاواباتا ندم لأنه لم يرفض الجائزة عام 1968 وآثر الانتحار لأن الجائزة أصابته بعد أن نضب إبداعه وفقد القدرة على الكتابة، وألبير كامى الذى حصل على الجائزة عام 1957 دهمته سيارة وتوفى عام 1960، أما نجيب محفوظ الذى حصل عليها عام 1988 فقد تلقى طعنة سكين فى رقبته ثمنا لشهرته وإبداعه وحصوله على نوبل التى زادت من شهرته.وعلى هذا النهج تسير باقى مقالات الكتاب تناقش وتثير العديد من القضايا ذات التماس المباشر وغير المباشر مع الثقافة والمثقفين والأدب والنقد بل يتناول السينما «بين الروائى والتسجيلى» وهذا ما يثير فضولنا لنتعرف على النتاج الأدبى من شعر ونقد وكتب عن السينما وحوارات متنوعة حملت توقيع الكاتب.
فأحمد سماحة شاعر صدر له حديثا ديوان «خوف يرقبنى» باللغة العربية الفصحى والذى يُخيل إليك بعد الانتهاء من رحلة الغوص فى أحرفه وخلجاته أن الفصحى هى مجال سماحة الوحيد. ولكن من يعرف الشاعر عن قرب يعرف أنه يتمتع بلقب «مهندس القصيدة العامية» هذا اللقب الذى أطلقه عليه رفيق تجربته الشاعر الكبير محمد الشهاوى ليلتقطها بعد ذلك الراحل محسن الخياط ويكتب عن صاحب اللقب مرات عديدة متناولا عناصر التجديد فى قصائده. كانت أولى تجاربه العامية بعد نكسة 67 ليكتب: تبارك الوهاب/ اتفرفطت فى الصحرا شجرة اللبلاب/صار للبكا وطن/ صار للفجيعة كتاب/ واتقفلت بيننا/ وبين سينا الحبيبة/ ابواب.وهكذا من رحم اليأس تفتق ينبوع الشعر ليكتب بعدها قصيدة «حكاية الولد أحمد» ويحصل عنها على جائزة فى مسابقة رسمية كان يرأس لجنة تحكيمها الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور. يبتعد فترة ابتعاثه خارج مصر ليعود وقد تشعبت خلايا الثقافة لديه ليهتم بالنقد الأدبى والسينما فيكتب «الزمن فى السينما» و «السينما التسجيلية فى مصر». وعلى الرغم من كم القصائد التى كان ينشرها فى الصحف المصرية والعربية إلا أنه لم يهتم بجمعها كدواوين، ولكن الأصدقاء المقربين من الأدباء مثل محمد الشهاوى وعلى عفيفى وإبراهيم قنديل قاموا بجمع بعض أشعاره فى ديوان «مراية النار». ثم تتوالى الإصدارات ما بين شعر العامية والفصحى مثل «حكاية الولد أحمد» و «خوف يرقبنى».شارك أحمد سماحة فى تأليف 12 كتابا مع مجموعة من الكُتاب فى السعودية، وشارك فى لجان تحكيم للأعمال الأدبية فى السعودية والخليج، كما شارك فى العديد من المهرجانات العربية، ويرأس حاليا القسم الثقافى وقسم الرأى بصحيفة عربية.
مجلة أكتوبر العدد1727

Sunday, November 15, 2009

المثـقــف العربـــى "أيــن "و"مـــاذا"؟

كان من المنطقى أن نتساءل عن دور المثقف العربى فى الحياة الثقافية ونحن نشهد اقامة العديد من المؤتمرات والمهرجانات والمسابقات الأدبية . فمنذ أيام قلائل انتهى ملتقى القصة القصيرة وفاز فيه السورى باسم الشمالى بجائزة يوسف ادريس بينما ذهبت الجائزة الكبرى إلى القاص الكبير السورى «أيضا» زكريا تامر. ومن قبله انتهى المؤتمر الرابع والعشرون لاتحاد الأدباء والكتاب العرب دورة القدس فى الجماهيرية العربية الليبية ، وبعد عدة أيام قادمة ستشهد الأقصر مهرجان طيبة والذى سيحل عليه بابلو كويلهو ضيفا ، وبعده مؤتمر أدباء مصر الذى لم يستقر الرأى بعد على موعده ومكانه . وهكذا هنا وهناك مناسبات أدبية عديدة لم تعد تفرق كثيرا بين جنسية المشاركين فيها ، فقد اكتسب الجميع هوية واحدة وهى هوية الثقافة والأدب . ولذلك وعلى الرغم من الواقع الذى قد يظهر مساحة البون بين البلدان ، إلا أن هناك أقلاماً مازالت تكتب من أجل ترميم هذا الواقع مؤمنة بأن الثقافة من الممكن أن تكون حائط صد فى مواجهة حالة التشظى التى نعانى منها كشعوب ودول عربية وجدت نفسها فجأة وبدون مقدمات فى مواجهة عالم مفتوح على كل المستويات الفكرية والثقافية والاجتماعية.
ومن الأسماء التى آمنت بالامتداد الطبيعى للثقافة على رقعة الوطن العربى والتى سيجرى تكريمها فى مؤتمر أدباء مصر لهذا العام ؛ الروائى والناقد المسرحى ابراهيم جادالله ، الذى عمل كخبير للمسرح بجامعة الدول العربية عامى 82 و 83، ومستشارا للمسرح بمكتب وزير الثقافة اليمنى ،إلى جانب التحكيم فى كثير من التظاهرات الأدبية والثقافية عربيا ومحليا . له العديد من الأعمال الأدبية مابين مجموعات قصصية وروايات ودراسات نقدية جميعها تعكس رؤيته التى لا تعترف بالحدود فيما يتعلق بالثقافة والفن والأدب،بل إنه يؤمن أن فعل الكتابة نفسه «فعل مشاركة حقيقى نوع من أنواع زواج المشاعر والأفكار،ولو مؤقت آنى وسريع بين طرفين مختلفين ومتباعدين «»
فى كتابه «شدو طائر عربي» جمع باقة من الحوارات التى تناولت الكثير من القضايا الفكرية والثقافية والابداعية والفنية من وجهة نظر مجموعة من الأدباء والفنانين العرب مثل الكاتب المغربى محمد شكرى صاحب «الخبز الحافي» والشاعر اليمنى الدكتور عبد العزيز المقالح ، والفنان المسرحى التونسى المنصف السويسى ،والفنان المغاير مارسيل خليفة ، والروائى السعودى عبد الرحمن منيف ، والروائى الجزائرى واسينى الأعرج ، وأيضا الروائى يوسف القعيد الذى يصفه بأنه «من أبرز كتاب جيل الستينات فى مصر والمنطقة العربية ومن أكثرهم وعيا وفهما للواقع العربى وطموحاته ، نهوضه وسقوطه وانكساره وتحدياته «». ويجىء كتاب إبراهيم جاد الله «بيت من زجاج وحجر» ليعكس وبجلاء تلك الرؤية التى تتشبث بحلم القومية ، ولكن ليس بمفهومها العادى المنسحب على الجنس كعرب فقط ، بل يتحدث عن الثقافة الواحدة فى تجذراتها المتشابهة ، وفى ثمارها وتبرعماتها المتنوعة يضم الكتاب مجموعة من المقالات التى تتناول وكما يذكر الكاتب نفسه «»رؤى مغايرة عن أفكار عابرة ، تحاول استباق المألوف أو تجاوزه، وأخرى متجذرة تجذر اليقين».
يتحدث عن الثقافة واشكالياتها وعن المثقف الذى يصفه بأنه «مسكين ويكون أكثر مسكنة إذا كان مبدعا أديبا أو شاعرا او صحافيا» وذلك لأنه»أضعف حلقات السلسلة الثقافية التى تتكون من مبدع وقارئ ووسيلة نقل للإبداع»
وفى مقال بعنوان «سؤال الكتابة وخيارات الكاتب «يطرح الكاتب سؤالاً : « ما الذى نكتبه اليوم؟»مفرقا بينه وبين سؤال آخر لا يقل أهمية «ما الذى نكتب عنه؟» بعد أن حلل اتجاهات الكتابة ومقاصدها منتهيا برأى قد يراه كثيرون منطقيا ، بل ربما يكون هو الحل الوحيد لتقبل الرأى الآخر «ليس المطلوب أن يبحث الكاتب عن قضية كى يعتنقها ، ولكن من الضرورى ألا يتجاهل أو ينكر القضايا القائمة».
يتناول الكاتب أيضا قضية الرقابة على الإبداع والتى لا تقتصر على الرقابة الرسمية التى تمارسها بعض جهات القراءة والنشر بل تمتد إلى الرقابة الذاتية أو «الأهلية أى التقاليد والأعراف الدينية والاجتماعية»، وتناول أيضا ما أسماه «لغة الاحتراب ،والمدارس الأدبية» ليتحدث عن انتهاء عصر المدارس الأدبية المقولبة التى راجت فى الستينات من القرن العشرين وعن محاولة بعض الحداثيين استنساخ اتجاهات جديدة من تلك المدارس التى فقدت بريقها السابق.
لم تقتصر مساهمات الروائى ابراهيم جادالله على الاعمال الفردية أى التى يتصدر اسمه غلافها متفردا ككاتب يمتلك العمل ،بل لقد كان له سبق فتح طاقة العمل المشترك فى عمل واحد ،بل لقد تحدى حدود الجغرافيا التى نشأ رافضا لها منذ تشكل وعيه القومى ليكتب رواية «ايميلات تالى الليل» بالاشتراك مع الأديبة العراقية كلشان البياتى وذلك باستخدام تقنية الايميلات والعمل عن طريق التواصل عبر شبكة الانترنت التى أزالت كل الحواجز لتخرج الرواية المشتركة لافتة فى مضمونها وفى التقنية المكتوبة بها
مجلة اكتوبر العدد1725.

Wednesday, November 11, 2009

" اكتبــي فالكتابة عناقنـــا الأبـــدي!!


" اكتبي فالكتابة عناقنا الأبدي!!
"أن تكتب يعني أن تهجر معسكر القتلة " قالها كافكا وعشتها أنا. المدينة مليئة بالقتلة؛ قتلة الأحلام والطموحات، المدينة بلا قلب مثل سمكة قرش تنهش ولا مفر، فمن الشمال البحر ومن الجنوب البحيرة وعلى مد البصر يقف القتلة متحفزين لمن تسول له نفسه الهرب من تيه الأحراش .
كان لابد من الهروب والأبواب كلها موصدة . سجنوا الجسد فانطلقت الأحلام خلف الأسوار مع فعل "إقرأ" وكلما قرأ ازداد الجسد خفة واكتسب كيانا من أثير يعبر به فوق قيده الزماني والمكاني ليتجول في أركان الدنيا ، يبكي لموت ماجدولين وأوفيليا ، يفرح مع كوزيت وماريوس ، يقف خلف المتاريس مع جان فالجان ، يراقب شجرة اللبلاب وغصن الزيتون ،يطرب لعصفور من الشرق ، وهناك في أقصى الشمال يبحث مع فانكا عن قسطنتين مكاريتش ، يجمع مليون وردة حمراء مع آلا بوجاتشوفا ويستنشق عبير الزهور التي لا تنبت في أحراش المدينة المفعمة بالحزن . عندما رأى "حسن "أول قصة وعد بفتح أبواب السجن لأطير بعيدا ولكن حسن كان أول الخونة فقد مات ، وتبعته خيانات الرحيل العديدة لكل الأحبة ، ولكن مع كل رحيل كان هناك سطر ينقشه رسام الحروف في الذاكرة ليتحول بعد عمر إلى قصص وروايات . يعود الجسد إلى فعل "اقرأ واحلم " مرة أخرى، و في كل لحظة حلم ورحلة وعالم حر واسع حتى امتلأ النهر وأوشك على الفيضان ولكن أين عصى موسى لتعطي أمر الفيض بالكتابة ؟
وذات حلم جاء المخلص أخيرا وأشار إلي هامسا " اكتبي ، فالكتابة عناقنا الأبدي!"
فتح لي أبواب فراديس الروح ، أخيرا سيكون بيننا عناق ، أخيرا ستسري في تكويني حرارة كينونته بلا حدود ولا حواجز . توضأت بفيض نوره وامسكت بالقلم ، استعذت من سجن المدينة وبدأت أكتب وأقدم للبحر قرابين من خلجات ورؤى عوالم كانت مخزونة لسنوات عجاف عديدة . وبدأ فعل "اكتب" ينهمر . أكتبني غجرية وجيشا وعقيم وعفريتة ، اكتبني ما أشتهي ، أرسمني شقراء وسمراء وفتفوتة .أكتبه وأرسمه حنونا وقاسيا ، عاشقا وخائنا ،أوبحرا متيما . صرت حرة أخيرا ،أمسك القلم أينما ووقتما أشاء ،أستدعي كل الراحلين ، وأعدل من مصائرهم في مملكة الحروف المقدسة . أدركت حورية البحر أخيرا أن خلودها بين دفتي كتاب ، أن مجدها غزل لخيوط من أحرف . أدركت أنها منذورة للكلمة التي لن تقايض عليها أبدا ، تحجز بها مكانا تحت شمس تاريخ يدونه عجوز خرف معصوب العينين .
تكتب لأنها تدرك أن حروفها ستعانق الغائب جسدا الحاضر روحا وقلبا وبحرا .تكتب وتكتب عله يرى اسمها مكتوبا على غلاف كتاب أو صفحة مجلة فتعانق عيناه حروف اسمها . تكتب لتستوطن كتابا ربما تمسه أنامله يوما أو لربما يضعه على وسادته ليستقبل أنفاسه يمنحها بعضا من عمر فتعرف أنها على قيد الوجود في قلبه مازالت .
انتصار عبد المنعم
مجلة الثقافة الجديدة عدد نوفمبر 2009

Saturday, October 31, 2009

عن البهـجــة والكــآبة

عن البهجة والكآبة
يخطئ من يظن أن العيد يرتبط بالأحياء والحياة فقط ، ويخطئ من يظن أن السعادة لا تأتي إلا بين الأحبة والأصدقاء الأحياء في بيوتهم الفارهة المزينة بالستائر والديكورات ، وأصوات لعب الأطفال وأغاني ليلة العيد.
بل إننا لونظرنا إلى طقوس أعيادنا ، لوجدنا أن مظاهر الفرح والسعادة فيها ترتبط كثيرا بزيارة قبورالراحلين. ومعظم شعوبنا العربية متفقة بصورة أو أخرى على زيارة الموتى قبل الأحياء في صبيحة أول أيام العيد . تلتقي العائلات حول قبرالعزيزالراحل يؤدون طقوسا متشابهة تقريبا تلتقي جميعها في أنها تعبرعن تذكرهم للراحل وأنه ما زال بينهم . وفي أحيان كثيرة تكون زيارة القبور فرصة للتخلص من الكثير من الهموم يعود بعدها الزائرون وقد استراحوا وكأنهم وضعوا أحمالهم وراءهم تحت الأرض بصحبة ذويهم. وقد تكون الزيارة سببا في المزيد من الهم والحزن تضيع معها فرحة العيد المفترضة . فشكل القبر في حد ذاته قد يكون كئيبا قابضا للنفس لا يدل إلا على الفناء والعدم ، وقد يكون شكله مبهجا وكأنه جزء من حديقة عامة . وإذا تجاوزنا مقابر مثل الأهرامات، و توت عنخ آمون وحور محب وغيرهم ونظرنا نظرة سريعة إلى شكل المقابر والاهتمام بها ، لوجدنا أن هناك صلة وثيقة بين الثقافة السائدة في أي مجتمع، ومدى اهتمامه بالمقابر كمنزلة أخيرة ومنزل دائم للمنتقل من عالم إلى آخر .
فثقافة الصحراء التي تهيمن على الجزيرة العربية مثلا تعتبر القبرمجرد وسيلة للتخلص من جثة قابلة للتحلل والتعفن، ويبدو ذلك بصورة واضحة في مقابر مثل مقابر العود ، والنسيم في مدينة الرياض ، حيث لا يتعدى القبر كونه شق أو حفرة في أرض قاسية يلقى فيها المتوفي ، لا يميز واحد عن آخر ولا بلوحة عليها اسمه . حتى مقابر المصري المعاصر وعلى النقيض تماما من مقابرأسلافه الفراعنة الذين كانوا يهتمون بزخرفة مقابرهم والاعتناء بها ، أصبح الآن مجرد بناء أصم يعلو الأرض قليلا ، أو حفرة في أرض رملية وبعض نباتات الصبار التي تزيد من جو القتامة والكآبة ، أوغرف تختلف وضعية الراحلين فيها وتبقى الكآبة والقتامة ونباتات الصبار كعوامل مشتركة . وعلى الرغم من أن الموت واحد ، إلا أن هناك مقابر تبعث البهجة في نفوس زوارها عندما يرون الزهور والورود وشواهد البيوت الأرضية البيضاء منقوشا عليها أسماء الأحباء مثل مقابر الشاطبي بالأسكندرية ،حتى يخيل إليك أن أشخاصها يبادلونك الحديث من خلف الرخام الأنيق
وفي أمريكا والدول الأوروبية تبدو مناطق المقابر وكأنها متنزهات بكل الزهور والورود المزدانة بها حيث تختلف النظرة إلى القبر ليكون مكان إقامة ترتاح فيه أجساد الأحبة بعد عناء الحياة . ومن أشهر تلك المقابر مقبرة كنيسة الثالوث بنيويورك المدرجة ضمن المناطق المسجلة كأماكن تاريخية، حيث توجد جثامين أشهر الشخصيات التاريخية وسط بساط من الحشائش والزهور والأشجار . وفي مقابر العلمين حيث دفن جنود الكومونولث والألمان والإيطاليين نجد التباين أيضا . فما إن تدخل المبنى الخاص بمقابر الألمان ، حتى تشعر بالقشعريرة عندما ترى التوابيت الحجرية ذات الألوان القاتمة المائلة إلى الأسود أو البني الداكن ، فلا أثر للجمال هناك ، المشهد جامد خال من أي مظهر للجمال ، حتى في حجرة العبادة الصغيرة الملحقة لإيقاد الشموع وتقديم الهدايا الرمزية . ولكن الأمر على العكس تماما في مقابر الإيطاليين المشيدة على هيئة مبنى عال طولي ، يقود إليه ممر طويل محاط بسياج من الزهور والأشجار. وفي داخل المبنى الرخامي الأبيض تصطف رفات الجنود فوق بعضها خلف الحائط الرخامي ، لكل جندي قطعة خاصة به عليها اسمه وبياناته . وعندما توقع اسمك في سجل الزيارات الضخم ، تشعر وكأنك تكتب اهداءا لصديق على قيد الحياة يقف بالقرب منك ، لا ميت ساقه حظه لكي يموت ويدفن في صحراء بعيدة عن الوطن ويصبح ذكرى في كتاب تاريخ . ومن أجمل المقابر التي تبعث على البهجة في النفوس وتذكر بالوفاء والحب ، ضريح تاج محل الذي بناه الامبراطور المغولي شاه جيهان تخليدا وحبا لزوجته ممتاز محل ، والمحاط بالحدائق وأحواض المياه والممرات الخلابة المنظر التي تبعث البهجة والسعادة . وقد وصف الإمبراطور شاه جيهان نفسه هذا الضريح بقوله:
("إذا لجأ إلى هذا المكان شخص مثقل بالذنوب، فسيتطهر من ذنوبه، كالمغفورة له خطاياه. وإذا لجأ الآثم إلى هذا القصر، فستنمحي جميع خطاياه السابقة.") .
ومن المقابر التي تبعث نوعا من الراحة والهدوء والسكون في نفوس زائريها ، "مقابر البقيع" حيث يوجد خيرة صحابة رسول الله وبعض أزواجه رغم أنها مقابربسيطة جدا وخالية من أي زخرفة أو أي شئ دنيوي.
وتعد مقابر الأرقام من أكثر المقابركآبة وأقدرها على بث الحزن ، والتي أطلق عليها هذا الاسم لأنها تتخذ الأرقام بديلاً لأسماء الشهداء المقبورين فيها . وهي عبارة عن مدافن بسيطة محاطة بحجارة صغيرة الحجم وبدون شواهد، ومثبت فوق كل قبر لوحة معدنية تحمل رقماً معيناً، ولكل رقم ملف خاص محفوظ لدى الجهة الأمنية المسؤولة ويشمل المعلومات والبيانات الخاصة بكل شهيد و حياته مع السلطات الإسرائيلية التي لا تسمح بالزيارة ولا معرفة أصحاب الأرقام .
وتعتبر سياحة المقابر من أحدث الصيحات في عالم السياحة والتي بدأتها سان سالفادور بتنظيم رحلات منتظمة للقبور والأضرحة وخاصة في مدفن لوس ايلوستريس الشهير الذي يضم رفات العديد من الشخصيات السياسية ، والأثرياء ، والأدباء أمثال ارتورو امبروجي والشاعر البرتو ماسفيرير . وإن كانت القبور مكان سياحة من نوع جديد في سان سالفادور، فهي مكان إقامة دائمة ، ليس للميت فقط ، بل للأحياء أيضا ، حيث يشارك نصف مليون مصري من الأحياء موتاهم مكان اقامتهم الأبدية تخلصا من أزمة السكن التي جعلتهم يحبون ويتزوجون وينجبون ويحتفلون بأعيادهم وسط شواهد الأضرحة ، وعلى أصوات حفر القبور لا قرع الطبول.
مجلة أكتوبر العدد1723

Saturday, October 24, 2009

نحن أولاد الغجر!

نحن أولاد الغجر

اهتم الأدب والفن بفئات وطوائف من البشر همشتهم ظروف عديدة، منها ماهو متعلق بالتوزيع الجغرافي مابين جنوب وشمال أو مدن وقرى، ومنها ماهو متعلق بالأعراق والأجناس والطبقات. وغيرها من عوامل عديدة منعتهم من المشاركة الفعالة والتواجد الطبيعي في الحياة كغيرهم. بل إن الأمر -وفي كثيرمن الأحيان- تعدى حد الاهتمام ليتحول إلى اعجاب وافتتان بعوالم هؤلاء المهمشين كنوع من الإنصاف أو حتى التناول المحايد الذي يصورويبرز قضاياهم دون أخذ موقف محدد، ليجد القارئ أو المشاهد نفسه في موقف المشارك في العمل، لأن عليه هو نفسه تبني وجهة نظر خاصة به وحده دون تدخل الكاتب أو المخرج .من بين تلك الفئات، عالم الغجر الساحر المليء بالقصص والحكايات والأخيلة نتيجة جهلنا بخبايا عوالمهم ونشأتهم. فهم يعيشون دوما حياتهم الخاصة الغامضة على هوامش المدن في كل أنحاء الأرض كأبناء للتشرد وأولاد للرياح . وطنهم لا يتعدى خيمة ينصبونها في مكان ما لفترة يرتحلون بعدها إلى مكان آخر. يقاومون الحزن والفناء بالرقص والغناء كخبز يومي على موائد تخصهم وحدهم، فلا نصيب لهم على موائدنا، ولا يطمعون في موائد مَنٍ وسلوى سماوية تتنزل عليهم ، فسماؤهم مروج خضراء ممتدة، وجنتهم لا تتجاوز نعيم يوم ينقضي بلا جوع أو ملاحقة. الغجر أو النـَوَر هم أبناء الطبيعة والترحال الذين وعلى الرغم من النظرة السلبية التي ينتظرها الجميع إليهم ، فقد كانوا على الدوام مصدرا للإلهام والابداع للأدباء والفنانين الذين رأوا فيهم حبا للحرية والتوحد مع الطبيعة البكر بعيدا عن الجدران والقلاع متخلصين من سيطرة القوانين الأرضية والسماوية التى تفرض صور التعامل والعيش وشكل الزى على الجميع. فالغجر هم أنبياء أنفسهم وأرباب عوالمهم. ونحن نعترف لهم بهذا كله حينما نسلم أكفنا لضاربة ودع، عساها تخبرنا شيئا عن مستقبلنا المجهول. رأى الأدباء في حياة الغجر تحررا وحرية اختيار لا يملكونها، فإن جذبتهم حياة الغجر ليستمتعوا بها يوما أو يومين، فمن منهم لديه قوة الاختيار ليتخلى عن مجد الصالونات والبيوت المزخرفة ليعيش حياته بعيدا عن زخارف المدن الموشاة بالقوانين وافعل ولا تفعل، البس ولا تلبس، حرام وحلال، يجوز ولا يجوز، يمين ويسار، جنة ونار؟ . فالغجر هم أحفاد الانسان الأول الذي كان يجوب الأرض بفطرته السابقة للأديان والقوانين، والذى كان يعبر بجسده عن كل شئ عن السعادة والحزن، عن النصر والهزيمة. هكذا الغجرية ترقص إن فرحت وإن حزنت، ترقص إن أحبت أو إن أرادت انتقاما، ترقص لتخرج من حدود المكان والزمان تحتفى بالحياة، تعبر بجسدها وحده بلا خجل، فجسدها هو ريشتها وقلمها ، والرقص هو اللغة الوحيدة التى تجيدها. ومن هذا ارتبط تسمية أشهر فنون الرقص في أسبانيا بالغجر، وهو الفلامنكو الذى يحتوى على الغناء والرقص والعزف على الجيتار بالإضافة الى التصفيق الجماعي أو الفردى. وسواء كان الغجر هم من يرفضون الاندماج أو أن مجتمعاتهم ترفضهم وتلفظهم خارجها وتنظر لهم على أنهم مشردون ولصوص وخارجون عن القانون، فقد ولع الأدباء بعوالمهم، واقتربوا منهم تجذبهم الغجرية التي رأوا فيها عالما سحريا ذا نكهة ايروتيكية بجسدها الذى لم تروضه عادات وتقاليد الحضارة. وتبقى «كارمن» الغجرية خالدة فى رواية الروائي الفرنسي بروسبير ميرميه، ويبقى صوتها مغردا: أنا حبى كولد غجرى/ إن لم تحبنى فسوف أحبك/ وإن أحببتني فاحترس، بعد ان تحولت على يد الموسيقار الفرنسي جورج بيزيه إلى واحدة من أشهر الأوبرات العالمية. أما عشق الشاعر الإسباني فديريكو غارثيا لوركا للغجر فهو الأعظم ، فلم يسبق لشاعر عالمي أن أحبَّ الغجر وشغف بهم كلوركا .الذى عشقهم وأدمن أغانيهم و استوحى من إيقاع رقصهم ، إيقاعا داخليا للكثير من قصائده حتى ظنه بعض دارسيه أنه غجرى!. وبالنسبة لكتابنا العرب يجيء الكاتب أنيس منصور في مقدمة المهتمين بعالم الغجر بمقولته الشهيرة «لو لم أكن غجريا لوددت أن أكون غجريا». ويكتب «نحن أولاد الغجر»، ويحكى مرارا قصة فراره صغيرا من عقاب أمه ليعيش بين الغجر، ويحكى قصة حضوره جنازة ملكة الغجر الرومانية الأصل فى ايطاليا.ويكتب الراحل عبد الرحمن درويش ،الأديب السكندري عن الغجر في روايته «الإبحار فوق نهر جاف» ويذكر:(بنات الغجر لسن جميلات كما يشاع عنهن وإنما هن شهيات يتفجرن أنوثة رغم الشراسة التي تكسو ملامحهن». ومن الشعراء يجىء الشاعر الأردنى مصطفى وهبى التل المعروف بعرارالذى أغرم بالراقصة الغجرية سلمى، ولذلك كان من أشهر مَن وصف حياة الغجر .وفى السينما لا يبقى في الذاكرة غير «تمر حنة» الغجرية، الغزية الراقصة نعيمة عاكف عام «1957» بصورتها الحلوة الخفيفة لتعدل قليلا من صورة الغجر المحصورة في الحواة والقراداتية والسارقين وضاربات الودع والتي تناولتها أفلام تالية ظهر الغجري فيها دائما موضع شبهات وموضع اتهام إلى أن يثبت أحدهم العكس ، وهذا ما تعرضت له الغجرية ازميرالدا عندما اتهمت بممارسة السحر وكادت أن تشنق لولا الأحدب كازيمودو في «أحدب نوتردام»، وأيضا لا ننسى أبدا «ألان ديلون» فى فيلم «الغجرى» وهو يتعرض للمطاردات والملاحقات. ولكن ليس كل الغجر تمرحنة أوكارمن، وليس كل الأدباء لوركا. ويبقى الغجر فى عوالمهم، وتبقى الغجرية مثل حلم، مرتحلة فى البرارى وعلى الهامش، تكمل الجزء المفقود فى مخيلة الأدباء بما تثيره من دهشة متجددة لا تخضع للترويض

Tuesday, October 06, 2009

خبر في "اليوم" السعودية

اليوم الثقافي
العدد 13262 السنة الأربعون /الثلاثاء 1430-10-17هـ الموافق 2009-10-06م
انطلاقة فاعلة لانتصار عبد المنعم
عن دار نون للنشر والتوزيع صدر للقاصة انتصار عبدالمنعم مجموعة قصصية بعنوان « عندما تستيقظ الأنثي».المجموعة تعد الأولي للقاصة وتتضمن 28 قصة تتفاوت في الطول والتناول الابداعي وطرق السرد وتحمل عناوين مختلفة منها:«جروح الملح» «غجرية» «وثائق» «قرار» «حدث في رحم ما» «عفريته» «قل لي يا احمد» «خمس دقائق» «علي الرمال» «فتفوته» «هزيمة» «مريم وسيف» «طائرة ورق».القاصة نشرت العديد من أعمالها في الصحف والمجلات المصرية والعربية ولها رواية تحت الطبع
.
http://www.alyaum.com/issue/article.php?IN=13262&I=706454&G=1

دار اليوم للصحافة والطباعة والنشر/السعودية

Saturday, September 26, 2009

سأحـــدثـكم عـن نـــــدا

سأحدثكم عن نــدا!
مثل قطرات الندى صباح يوم صاف؛ هذه هي ندا. في العشرينيات من عمرها ، شقراء، رشيقة وتكتب القصة والخاطرة والشعر. لو توقفت عند هذه النقطة فلا جديد ، فهناك الكثيرات ممن يشاركنها نفس الصفات ولذلك لابد لي أن أكمل مستدركة ولكنها تمتاز عن باقي الشقراوات بميزة تخصها وحدها . فكل البشرعلى نفس الهيئة من أطراف وأعضاء ، أما ندا فقد خصها الله بساقين وذراعين مثل أجنحة عصفور قصيرة ، وأصابع صغيرة مثل براعم الزهور قبل تفتحها . جاءت ندا مميزة في وسط اجتماعي رغم ثرائه المادي إلا إنه لا يتحدث لغة الزهور ولا ينصت إلى تغريد الطيور . ولذلك عانت كل توابع اختلافها . عاشت ندا الحياة تفلح حينا وتخفق أحيانا كثيرة في تحمل قسوة النظرات ، وصعوبة التنقل من مكان لآخر وهي ترى النظرات تتابعها . وتسمع مصمصة الشفاة ، وتعليقات الناظرين المتابعين لكل حركة منها وهي تدبر أمرها دون معونة من أحد . وتمر السنوات ، وفي كل يوم يختصر الجميع وجود ندا في أطرافها المختلفة فقط . لم يفكر أحدهم يوما أن هناك عقل ومواهب وملكات تميز هذا العصفور الوحيد . حتى عندما ظهرت ندا ضيفة في أحد البرامج الشهيرة ، أعطاها مقدم البرنامج اللامع هديته الذهبية وهو يظن أنها تتوق إليها ، لا يعلم أن المال لم يكن يوما مشكلة لها ولا لأسرتها ، لا يعلم أن ندا تستمتع بشراء الهدايا لمن حولها وتمنح كل شئ عن طيب خاطر . اعتقد مقدم البرنامج أن مهمته انتهت فقد جعلها مادة ناجحه لبرنامجه ، وانتهى الأمر لتعود ندا إلى حياتها السابقة بأتراحها ، ولكنها الآن أصبحت أتراحا مغلفة بطبقة كلسية من خيبة الأمل في أن تحصل على اسلوب تعايش طبيعي مع من حولها الذين لا يستطيعون تجاوز نقطة اختلافها التي تجعلهم لا يرون فيها غير أطرافها الأجنحة .
تحاول ندا انهاء حياتها ثلاث مرات ، ولكنها في كل مرة تفاجأ بأن الحياة تتمسك بها . قضت عامين في دراستها الجامعية ، ثم توقفت فلم تعد تتحمل عذابات التنقل مشيعة بالتعليقات السخيفة . سجنت نفسها بين جدران منزلها . وتمر أربع سنوات عجاف على انقطاعها عن الدراسة . وفي يوم تلجأ إليها واحدة من قريباتها لتساعد ابنتها طالبة المرحلة الإعدادية التي لا تعرف القراءة والكتابة . فتبدأ معها ندا بإسلوب تعليمي فرضته عليها ظروفها المعيقة التي لا تمكنها من الكتابة على سبورة عادية مرتفعة . لم تدرك ندا وقتها أن الإسلوب التلقائي الذي اتبعته في تدريسها يعتبر من أحدث الاتجاهات التعليمية القائمة على ما يُـسمى بالتعلم النشط الذي يكون محوره الطالب الذي يقوم بنفسه باستخراج المعلومة وتحليلها واستخدامها وتدويرها في سياقات مختلفة . وهكذا نجحت ندا مع أول طالبة لتكرر التجربة وترى نجاحها يتكرر. ولكن الأمر ليس فيلما عربيا لينتهي عند هذا الحد بابتسامة يضعها المخرج على وجه الجميع . فندا تتعرض للإستغلال مثل غيرها ممن لهم ظروف مشابهة . فعندما تقرر الاهتمام بالجانب الأدبي لموهبتها وتذهب لصحيفة ما تُفاجأ بأن الصحفي يعرض عليها عمل تحقيق مصور عنها وعن حياتها اليومية وتنقلاتها متجاهلا أنها جاءت تتحدث بعقلها عما يدور داخله ، في حين أنه لا يرى فيها غير جسد مختلف يصلح ليكون مادة تحقيق ملئ بصور ندا عارضا إياها للفرجة في صحيفته ليحصل على موضوع يتيه به على زملائه . ويتكرر العرض عليها عندما تتواصل مع بعض البرامج الحوارية فيكون اللقاء المصورهو العرض المشترك والمتفق عليه بين الجميع ،فالجميع يريدون صورا للعرض.
المشكلة ليست مشكلة خاصة و الموضوع ليس موضوع ندا وحدها ، المشكلة تتعلق بكيفية التعاطي مع انسان له ظروف معيقة لم يكن له دخل فيها ولا مجال أمامه لتغيير قدره هذا. وفي نفس الوقت له مشاعر وأحاسيس تتعرض للخدش في كل لحظة ليقع تحت عبء اختلافه وعبء نظرات الإستهجان المصوبة عليه في كل لحظة. بعد لقائي بندا أدركت أن المشكلة تكمن في ثقافتنا الضحلة والمخزية في التعامل مع الآخر المختلف عنا في أي شئ سواء في الدين أو اللون أو الشكل الخارجي ، هو إرث ثقافة رجل الغاب الذي إن رأى عصفورا زاهي الألوان فلابد من وضعه في قفص للفرجة ؛ هذا إن لم يقتله . فعلى الرغم من المستوى الثقافي والمعرفي لأغلب من تحدثت معهم ندا إلا أنهم وللأسف لم يتجاوزا في تفكيرهم نقطة التعامل مع المظهر الخارجي لها . بل لو نظرنا نظرة سريعة إلى البرامج التليفزيونية ، سنجد أنها الآن تتبع اسلوب الإثارة والفرقعة في التعامل مع المشاهير.، أما فيما يتعلق بالبسطاء ، فهي تتبع إسلوب الابتزاز العاطفي للجمهور والتشهير بالضيف الذي يظهر وكأنه طفل الغاب ماوكلي العائد من الأدغال وهو تحت الأضواء التي يصر المخرج على تسليطها عليه وقت دخوله ومصافحته لمقدم البرنامج ، تغلبه مشاعر الدونيه والخوف ، ثم يسلطها عليه مرة أخرى أو بالأحرى يسلطها على عينيه التي يكتم فيهما دموع "الفضح" أمام خلق الله في حين أنهم يحسبونها دموع "الفرح "بهدية البرنامج الذي عرضه للفرجة على الناس في قفص ملون له صوت وأزرار وريموت .
أليس من حق ندا وغيرها ممن لهم مواهب وملكات في شتى المجالات أن نتجاوزنقطة اختلافهم المتعلقة بالجسد لنتعامل معهم بما يليق بجوانب تميزهم؟ أم سنظل ننظر إلى بقعة واحدة سوداء متجاهلين باقي لوحة أبدعها مبدع له في خلقه شؤون؟
تُرى ماذا كان وضع هيلين كيلر لو نظر لها مجتمعها على أنها الصماء البكماء العمياء فقط؟؟ من المؤكد أنها لو كانت لدينا في مجتمعاتنا العربية لكان مصيرها عتبة مسجد تتسول عليها
مجلة أكتوبر العدد1718 !!

Sunday, September 13, 2009

"فـــي انتظــــار القــادم" وتيمــة الرحيــل


"في انتظار القادم" ؛مجموعة قصصية ، جاءت كل قصة فيها كجرعة مكثفة،أوكدفقة شعورية مركزة و متماسكة تتمثل فيها مقولة يوسف ادريس "إن القصة القصيرة مثل الرصاصة تنطلق نحو هدفها مباشرة " فلا كلمة زائدة أو بلا عمل، فمن أول استهلال مع أول كلمة تظهر معالم اسلوب "محمد عطية محمود" السردي البعيد عن الحشو والترهل . فهو لا يقدم القصة الحدوتة، بل القصة الرمز، ولكن الرمز في قصصه ليس من النوع الذي يحيل إلى عالم الماورائيات المستحيل ، بل إلى عالم التوحد مع الذات أو الحنين إلى روح الأصالة المفتقدة لتأتي قصصه مثل نفحات روحية وجدانية ، وكأنما تفوح منها رائحة البخور الذي يعيد الانسان إلى عبق ذكرياته البعيدة التي تحدد هويته.
يقدم "محمد عطية محمود" في مجموعته القصصية لقطات لأوجه الحياة التي لا تستقر ، يبرز فيها لحظات حياتية بعينها تعكس فكرته أو تيمته الأساسية وهي أننا كلنا على سفر، ومن على سفرفهو كالغريب وإن طال مقامه فهو عائد إلى مكان اقامته الدائمة حيث تنجلي كل الأحزان. ولذلك لا توجد قصة واحدة يسودها استقرار بيت هادئ أو أسرة وعائلة مكتملة . بل جاء الفضاء المكاني الذي تدورعليه احداث قصص المجموعة ليشير إلى فكرة السفر أو الرحيل وعدم الاستقرار مثل ( شرفة ،باب، مقهى ، عيادة طبيب، درجات السلم ، غرفة العناية المركزة، شركة توظيف ،حوض السفن، القبور، الطريق العام، طريق ليلي،طوار المحطة ، عربة أجرة ،الترام ، ظهر دولاب ، حديقة عامة، سلم البيت ، رصيف ، مكتب مدير العمل ،ميدان محطة الرمل ،أو حتى لا مكان كما في القصة الأخيرة ). أما السفر فقد جاء أولا : بمعناه المعتاد كانتقال مكاني ، أو المغادرة من مكان إلى آخر في قصص مثل (شنطة حليمة ،صباح قباري المنور، مخيلة البهجة ،اختراق ،هوية ، وردية ،المروحة، توحد ،نصف حلم نصف روح ، تجليات الخفة ،هيستريا ،نظرتان ،مغادرة ) . وثانيا :هناك بعض القصص التي تتناول تيمة السفر كرحيل أخير عن العالم وتشير إلى شخوصها الذين على وشك عبور حاجز العتمة (غيبوبة ، فواصل ضيقة ،افاقة). وثالثا :هناك السفر الداخلي أو التوحد مع الذات عن طريق حلم ، أو استرجاع ذكريات بعيدة تحضن حنينا لعوالم دفء فائتة (شرفة ،غصة ، اشتهاء ،طقوس للرؤية ،العام الثاني والعشرون).
وعلى التوازي هناك الشخصيات التي تستعد للسفر والرحيل والذي يجمع بينهم صفة مشتركة ؛ أنهم من الصف الثاني من البشر.فالمجموعة تتحدث عن حيوات الشخصيات السنيدة أو الكومبارس الذين لا أمل أمامهم في تقلد سيف البطولة، فقد همشتهم الحياة وأصدرت حكمها عليهم بالاقصاء كأمر واقع ، ذلك في الوقت الذي لا تستقيم فيه الحياة بدونهم فأبطال المجموعة على شاكلة (رجل مسن ،حليمة العجوز، قباري الحمال أو العتال، فني الغلايات الذي يعمل تمرجيا ، صاحبة القطط الوحيدة ، باحث عن وظيفة ، أب مقهور ماديا ،عامل الوردية الليلية ، امراة عجوز، راكبي الترام من مراهقين ومشاغبين، بائعة الحلوى ، لاعب مضطهد ،رجل بلا مأوى ...) وغيرهم . وما يجمع كل شخوص المجموعة أيضا ، أنهم جميعا في حالة ترقب ، في حالة انتظار للقادم ، الكل ينتظر تبدل الحال وانفراج الأزمة وهذا ما يشي به عنوان المجموعة نفسها .
وفي تقديمه لشخوص مجموعته، يهتم القاص بتقديم الشخصيات تقديما كاملا متناولا البعد الجسدي لكل شخصية واصفا التكوين الجسماني والطريقة التي يتحركون بها، بل لم يترك تعريجة على يد، أو بسمة أو تقطيبة على وجه إلا ووصفها بدقة .اهتم أيضا بالسمت الاجتماعي للشخصية واصفا العمل الذي تمتهنه وظروفها الاجتماعية التي تعايشها لتتمثل مقولة هنري جيمس "تنجلي الشخصية في تلك الأشياء التي يختارها أو ينبذها المرء". ثم يمتد اهتمامه إلى البعد النفسي لكل شخصية يرسم ما تعانيه من طموحات وآمال واصفا ما تسببه حالة الانتظار والترقب من توترات أومن خيبات للأمل أو من تداع للذكريات. وإذا نظرنا إلى اختيار أسماء شخوص المجموعة كطريقة لرسم الشخصية ، سنجد أن القاص لم يهتم في أغلب القصص بالأسماء لأن الحدث هو المهم وهو البطل ، ولكن في بعض القصص جاء استخدامه للأسماء ذا دلالة فمثلا "شنطة حليمة" جاء اسم حليمة المشتق من الحلم ليعبر عن حال حليمة الصابرة والمسامحة والجلدة ولربما الحالمة أيضا بتغير الحال .
بل إنه في وصفه يسقط على الجماد الصفات البشرية يخلق به تناغما بين الجماد والانسان في علاقة غير منفصلة ، ففي حالة الحنين يتفاعل الجماد مع الانسان و تتداخل ماهيات الأشياء "يستفيق الترام من سبات قصير...تتثاءب عجلاته ..".(نصف حلم ..نصف روح)
وعندما يصف الكاتب كل هذه الشخصيات والبيئة المحيطة بها، فهو يبدو وكأن ملامحهم قد حُفرت في ذهنه أوكأنه يضعهم أمامه يرسمهم بفرشاته الملونة المحبة لكل شخصية ، فهو يكتب كما قال هيمنجواي "أكتب عما تعرفه". ولذلك جاءت شخصياته حقيقية وبالتالي فما يحدث لها ومنها واقعي وحقيقي أيضا ، مما يؤدي إلى التأثير في القارئ الذي يستجيب متعاطفا مع الشخصية أو كارها لها .
ومن النظر إلى لغة القص في المجموعة نجدها فنية حيوية تحمل دلالات واضحة لترسم الموقف بجانبيه الخارجي والداخلي في نظرة استبطانية عميقة. بل يبدو وبوضوح تعاطف القاص مع شخصياته بل منخرطا معهم . ويتضح ذلك في حرصه على تنوع مستويات السرد في المجموعة بل وفي القصة الواحدة ، فهو تارة يبدأ بضمير الغائب ثم يلجأ إلى ضمير المخاطب في تنقلات غير مقحمة تزيد من حميمية العلاقة بين الكاتب وشخوصه ، في حين جاء استخدامه لضمير المتكلم قليلا بالمقارنة بين ضميري الغائب والمخاطب .
بقيت الإشارة إلى قصتين "تسلل" و "العام الثاني والعشرون" ففي "تسلل"تتجلى مقدرة القاص الفائقة في رسم الشخصية دون التصريح بلفظ واحد صريح ،ومن خلال الحدث الصغير تنجلي القصة الكبيرة للمؤامرة التاريخية. وتأتي "العام الثاني والعشرون" بضمير المتكلم ذاتية الجرح والحنين للغائب بجسده الحاضر بروحه لتغلق دفتر الحنين الذي فتحه محمد عطية محمود ب"شرفة" وأغلقه ب"العام الثاني والعشرون".
مجلة أكتوبر العدد1716

انتصار عبد المنعم

Sunday, September 06, 2009

القصة والرواية ..حديث لا ينتهي

القصة والرواية ..حديث لا ينتهي
اهتم كتابنا الكبار بكتابة الرواية كجنس أدبي وجدوا أنه الأنسب كوعاء لأفكار وأحداث كثيرة لا تتحملها القصة القصيرة ، وامتلأت الساحة بالروايات التي تلقفتها وسائل الاعلام محتفية ومروجة . ثم جاء حجب جائزة الدولة التشجيعية للقصة القصيرة لعام 2007. ،وتم منح جائزة يوسف ادريس في القصة القصيرة للقاص العماني سليمان المعمري ، ليعتبره البعض أنه خير برهان على وفاة القصة القصيرة ،وأن مصر أصابها العقم لتنجب قاصا واحدا. وخرج علينا بعض المتطوعين ليعلنوا موت القصة القصيرة وأن زمنها قد ولى وراح مستشهدين بكتاب الدكتور جابر عصفور "زمن الرواية".
ومؤخرا ، عاد بعض الروائيين الكبارلكتابة واصدار مجموعات قصصية ،خاصة هؤلاء الذين ارتبطت أسماؤهم بجوائز كبرى مثل بوكر ، فالروائي مكاوي سعيد صاحب "تغريدة البجعة" التي وصلت إلى القائمة القصيرة ، أتبع روايته بمجموعة قصص قصيرة "سري الصغير" ،والروائي بهاء طاهر صاحب "واحة الغروب "التي نال عنها الجائزة أصدر أيضا مجموعة قصصية بعنوان" لم أكن أعرف أن الطواويس تطير" وغيرهما من أصحاب الأقلام المميزة .
وللعجب أننا نجد فجأة من يتحدث متحمسا معلنا عن عصر البعث والنشور للقصة المقبورة . ومع خالص احترامنا لكل كتابنا الذين تعلمنا منهم وتتلمذنا في مدارسهم ، فإنه من الغبن والظلم أن يقوم تاريخ القصة على أسماء بعينها ، إن هجروها فهي متروكة مقبورة ،وإن كتبوها فهي حية ترزق، ليصبح تاريخ القصة مرتهنا بما يكتب هؤلاء العظام المستأثرين بالاهتمام الاعلامي منذ شروعهم في كتابة أول سطر في الرواية وحتى انتهائهم من الكتابة لتبدأ مرحلة أخرى من الاهتمام على يد مجموعة النقاد التي لا تضيع تلك الفرصة في الكتابة عن الروائي المعروف أملا في بقعة ضوء تـُُسلط على أسمائهم هم . فأي مكسب سيجنيه الناقد من وراء اضاعة الوقت في القراءة و الكتابة عن قاص مغمور لم يعرف طريقه إلى زمرة المروجين للأصحاب والزملاء بنظام "واحدة عندك وواحدة عندي"؟
هل ضياع الاهتمام الاعلامي بالقصة القصيرة يـُعد مسوغا لإعلان الوفاة؟ وماذا عن كتاب القصة القصيرة من خارج دائرة الضوء القاهري القهري البارعين والذين تمسكوا بها على الرغم من كل المعوقات ،هل نستخرج لهم شهادات وفاة رسمية أيضا؟؟ فكتاب مثل محمد عطية محمود ويحيى فضل سليم وصلاح بكر اخلصوا للقصة القصيرة التي اتخذت شكلها المميز من البحر والساحل والميناء والرمال فكانوا مثل البحارة الذين لم يتخلوا عن سفنهم حتى وإن قال لهم القائلون أنها تغرق.وهل من الممكن أن يموت جنس أدبي استخدمه محمد حافظ رجب ويوسف ادريس؟؟
القصة القصيرة كانت متواجدة دوما ولكن في دائرة التهميش والاقصاء ،فالاهتمام بالرواية والذي تصاعد خاصة بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988، جاء على حساب القصة القصيرة التي لم تجد لها مكانا ولا جوائز مميزة ترصد لها ،في الوقت الذي ظهرت فيه النسخة العربية لجائزة بوكر في الرواية والتي أصبحت مطمح كل الآمال وقبلة الأبصار كل عام ،حتى بات جليا أن البعض يكتب روايته وعينه على بوكر بعد أن أصبحت نوبل بعيدة المنال ،والتي هي الأخرى انحازت إلى الرواية فلا يوجد- على حد علمي -من بين الحاصلين على جائزة نوبل واحد من كتاب القصة القصيرة ..
ولأن الرواية أصبحت الجنس الرابح خاصة لو تضمن قصة فضائحية أو بعض السباب أو بعض الخلافات العقائدية فقد تسابق الجيل الجديد من الأدباء تتوالد من بين أيديهم الروايات كالأرانب والفئران، لتظهر ظاهرة رواية لكل مواطن ، وشعار أفضل المبيعات للرواية التي لم يتجاوزعدد نسخة الطبعة فيها المائتي نسخة تم توزيعها على النقاد من المعارف ، والأصدقاء العاملين في مجال الصحافة الأدبية ليقوموا بدورهم في الترويج للإخوة الزملاء . فأصبحت الأضواء مسلطة على فئة معينة خدمها التوزيع الجغرافي ليكونوا في بؤرة الاهتمام القاهرية حيث تتواجد مقرات الصحف والمجلات وجلسات المعارف التي يتم فيها تحديد الأدوار وتوزيعها على الأصدقاء الذين بيدهم نشر قصة هذا أو الترويج لرواية يفكر فيها هذا الألمعي ، أو رحلة هذا الصديق إلى بلاد السند فاتحا ؛من أجل الصداقة والأمسيات المميزة التي تجمع المقربين فقط وتكون كفيلة بتعويض الناقص في الموهبة ذاتها ببعض الترويج الذي يرمم الجوانب المتهالكة في أي عمل أدبي كتبه شخص سعيد الحظ والطالع . وفي ذات الوقت ينصرف الاهتمام بعيدا عن الأدباء الذين ساقهم حظهم العثر والتوزيع الجغرافي الذي اصطلح على تسميته "الأقاليم" فحلت عليهم لعنات وتنزلت عليهم أوبئة التهميش ونظرات الاستعلاء حين يرسلون بأعمالهم إلى القائمين على الصفحات الأدبية في الصحف أوالمجلات الأدبية المتخصصة .بل ومما زاد من سوء طالع هؤلاء أن يتحالف ضدهم التوزيع الجغرافي مرة أخرى وهم يشاهدون كيف أن صحفهم تفتح صفحاتها للأصدقاء من قاطني بلدان بعيدة لا تتحدث العربية ليصبح لهم مكان مميز جاهز لنشر أعمالهم فور شروقها على صفحات البريد الالكتروني للصديق المسئول ؛فقط لأنهم يكتبون اسماءهم العربية القحة مذيلة بهذا النيشان "مقيم في ميونخ أو السويد" مثلا.
كنا نتندر يوما على هذا الأمر فجاء اقتراح وجيه على لسان صديق من"عزبة البرج" بأنه سيتلاعب ببعض الأحرف في اسم مدينته ليكتب أسفل اسمه "بطرسبرج"تلك المدينة الواقعة فى شمال غرب روسيا، حيث يتلاقى نهر نيفا مع خليج فنلندا على بحر البلطيق، بدلا من "عزبة البرج" الواقعة شمال دمياط على الضفة الشرقية لنهر النيل التعيس ،كحل أخير لمسألة عقدة الخواجة في ساحة النشر في الصحيفة ذائعة الصيت والسطوة ،ثم أخرج لنا من جيبه خريطة يوضح عليها أوجه التشابه بين جغرافيا بطرسبرج وعزبة البرج ، متعمدا لفظ اسم مدينته على وزن كلمة المدينة الأوروبية ، ونحن نضحك على طريقته وعلى فكرته الجديدة ، نكتم في قلوبنا دمعة متحجرة على واقعنا الثقافي المتأزم .
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر عدد
/5/9/2009/1715

Sunday, August 30, 2009

مقامـــات العشـــق في ديوان


مقامات العشق في ديوان
أجمل الشعر ما ارتبط بالوجدان ،ولا أبلغ من الشعر المستلهم من الحس الصوفي في التعبير والكتابة حيث تتماهى كل المعاني في مفهوم العشق كطريق يعبر به المريد ويرتقي من مقام إلى آخر أملا في الوصول إلى سدرة منتهاه وكل مشتهاه. وتتجلى تلك المعاني بوضوح في ديوان"ألم المسيح ردائي" للشاعرة فواغي القاسمي ،وهي شاعرة إماراتية تكتب القصيدة العمودية والتفعيلة والشعر الحر، لها مسرحيتان شعريتان"ملحمة عين اليقين" و"الأخطبوط "، و"أي ظل يتبعني" مختارات شعرية،و (موائد الحنين) ديوان . وتم عرض أعمالها المسرحية على مسرح دار الأوبرا المصرية .
تناولت في ديوانها ( ألم المسيح ردائي ) كل صنوف العشق بمفهومه الصوفي الذي يهدف إلى التغلب على الغربة التي يعانيها المريد منذ غربته الأولى عند خروجه من الجنة والنزول إلى الأرض،تلك الغربة التي أشار إليها ابن عربي بقوله :"إن أول غربة اغتربناها وجودا حسيا عن وطننا، غربتنا عن وطن القبضة عند الإشهاد بالربوبية لله علينا، ثم عمرنا بطون الأمهات فكانت الأرحام وطننا فاغتربنا عنها بالولادة"
في الديوان تتجلى نظرة الشاعرة للحب على أنه انعتاق الروح لتتحد مع المعشوق سواء كان رب العالمين الذي يمثل لها الحب اليقين وهو مهربها حين تشتد عليها الخطوب ، أو مع الوطن الذي تخبئه في حنايا روحها ، أو هذا المكان الذي مرت به وتركت به جزءا من ذكرياتها ، أو ذاك الرجل الذي أودعته قلبها العاشق الأنثوي، فثورة القلب حين يحب أليفه هي تماما ثورته من أجل حرية وطنه حين تُسلب منه قطعة لتصبح جرحا لا يندمل أبدا. جاء مفهوم العشق في الديوان كشئ أزلي يلف الواجد والموجود، فلا حواجز ولامكان ولا زمان، بل مقامات تتجاوزها أملا في الوصول . بدأت الشاعرة بالحب الأبدي السرمدي الذي يربط النقطة بالمحيط ، الذي يعيد الروح لتستقر عند منبع تكوينها ، الذي يعيد شعاع النور لمركز النور فيفيض ويشرق على الكون ، هذا هو الحب اليقين الذي تلوذ به في بداية ديوانها تطلب السلام " تسابيح القرب" ( أنت سبحانك لا تحصى بأعداد هباتك/ اجعل الكون سلاما لعباد هم تقاتك). وعندما يفيض عليها وعلى الكون سلاما تمسك قيثارة العشق والجوى تعزف أولى قصائد الحب الأزلي" ترنيمة عشق إلهية" (إلهي لقربك تشتاق نفسي / فقربك وصل ووصلك أنسي/ونورك وهج يضيء دروبي / يبدد خوفي وحزني ويأسي) .بل أنها تعاتب العلماء الذين يتدخلون في علاقة المريد بربه فجعلوا أنفسهم رقباء حتى على دعوات المحب لحبيبه في خلوته السرمدية حين لا يعي اللسان ما يلهج به؛
(علماؤنا يفتون بالتكفير/والتجريم.. والتحريم/ديدنهم ، كما دوما هم/سرد المآثم والوعيد/وكل ألوان العذاب/ويقينهم حتى الدعاء لبعضنا/بالنصر في ردع الأعادي/عن حياض ديارنا/كفر بدين محمد/يا للعجاب!!)
و تتناول الوطن وعلاقتها الوشيجة به خاصة عندما تتحدث عن جزء محتل "جف اليراع" و"طنب الجريحة" بل يتجلى الحس القومي عندما تتحدث عن فرقة الأمة العربية "قمم الضجيج".
و تظهر فيها حواء الرمز ، تظهر فيها المرأة العاشقة لآدم الرجل، تعشق كأنثى تهفو لصدر حبيب تأوي إليه روحها المشبعة بذرات الحب ، فتأتني بعض القصائد التي تشير لأدم الرجل في خفر العذارى، وبعضها تشير إلى المعشوق في المطلق دون افصاح جلي مثل "يا عذابي من غرامي"، و"شوق ولهيب"، و"غرام وشجون"، و"ما على الدهر ملام"، و"أرق الزمان لصبوتي"، و"محاكاة"، و"سلام سلام"، و"كم ليل العاشق ممتد!"، و"نجم العشاق.. حنانيك بمهجتي"، و"أعد لي قلبي يا سارقه"، و"عهود الغرام"، و"دع انعكاسك في ذاتي"، و"لا تسلني من أكون"، و"خلب الغرام جنانا"، و"زائري في ليلة صيف".
وتمضي فواغي عشقا و يقترن حبها لكل ما في الكون بألم يلفها روحا وجسدا ، هذا الألم الذي يغلفها كرداء لا تستطع الفكاك منه ( ألم المسيح ردائي) ، و تتقلب في الألم وهي ترى شماتة الفرحين بعذاباتها ، وتجور عليها نائبات الزمان فتستشعرها غصة في حلقها ؛ ( شيئان لا يقوى العزيزعليهما ...ظلم القريب وغربة الأوطان ِ/ما بال هذا الدهـر يثقل كاهلي... بكليهما و بقسـوة البهتانِ)
وتكثر المحن وتحيط بها ولكنها لا تستسلم بل تقاوم وإن كانت تلك المقاومة هي تلبس للعذاب :(فصنعت من جور الزمان قلادتي/ونسجت من ألم المسيح ردائي).
يظهر في الديوان التجانس بين المفردات المستخدمة والإيقاع السائد في القصائد ، نستشعر ذلك في التناغم الذي يتجلى كعزف سينفونية واحدة تعلو حينا وتهدأ حينا آخر ، فهي تسير ناعمة في حالة الوجد الصوفي ثم تثور وهي تتحدث عن الوطن السليب، وبين هذا وذاك ايقاع مختلط يتناسب مع موضوع كل قصيدة .
ربما نبع هذا التناغم من تنوع الأوزان التي استخدمتها الشاعرة التي تنقلت بين الرمل والكامل والمتقارب والبسيط والمتدارك والوافر ، وأيضا اسلوبها البسيط غير المتكلف في التعبير ونحت صورها الشعرية الخاصة بها والتي تسير على نفس النهج الروحي الصوفي من أجل الترقي إلى حيث مصدر النور السرمدي
مجلة أكتوبر العدد1714

Thursday, August 27, 2009

"ســري الصغيــر" محاولة لاستعادة العمر المسروق.


بعد أن أصدر مجموعته القصصية الأخيرة " سري الصغير" قال الروائي مكاوي سعيد أنه كتب قصصها في فترات متقطعة تخللت كتابته لرواية "تغريدة البجعة" .
ولذلك جاءت قصص المجموعة كفترات استراحة يمنحها لنفسه كي يلتقط أنفاسه مسترجعا و مستوحيا فيها مرحلة الطفولة ليخلق نوعا من التوازن يواجه به هذا العالم المكتظ بالمشاكل والذي تناوله في روايته الأخيرة .
وإن كانت المجموعة تحمل اسم "سري الصغير" ، إلا أنها لم تتضمن سرا واحدا صغيرا ،بل جاءت تحمل أسرارا متفاوتة ومتنوعة لشخصيات لاذ بها السارد كي يقاوم استلاب مرحلة الطفولة الحافلة بأحداث وأشخاص يتحدث عنهم بحنين يرمم به الفجوة الفاصلة بين مرحلة الكهولة والشيخوخة ، حين لا يجد الانسان أمامه غير الارتداد إلى مرحلة بعيدة تصرف ذهنه عن حقيقة العمر المسلوب . أراد الكاتب العودة إلى المرحلة التي من الممكن أن يبدأ منها أي انسان بداية جديدة ولا يشعر معها "أن العمر سرقني"كما قال مكاوي نفسه .اختار الكاتب الشكل القصصي البسيط لسرد حكاياه في اسلوب سلس يتماشى مع عمر السارد. وجاءت أغلب قصص المجموعة بضمير المتكلم على لسان السارد في مرحلة الطفولة و مرحلة المراهقة لتتداعى ذكريات مرحلة الطفولة بأحلامها الصغيرة ورؤيتها الخاصة لأمور قد يراها الكبار تافهة لا تستحق التوقف أو الإلتفات إليها .
في كل قصة سر من نوع ما ، ولكن من الممكن وضع كل الأسرار ضمن قائمتين ، واحدة خاصة بأسرار الصغار وأخرى بأسرار الكبار . جاءت أسرار الطفولة بسيطة بريئة مسالمة لا تتجاوز خطابا عاطفيا لابنة الجيران ، أو رغبة صبيانية لمراقبة راقصة ، أو مراقبة فتاة من نافذة .
وعلى النقيض نجد أسرار الكبار بعقدها وتأزماتها والتي تكشف زيف الكبار واجادتهم فن اخفاء عيوب الداخل أو الجوهر ببريق المظهر كما في قصص"السني ،و غرفة لم يدخلها رجل" .
وفي قصة "المهرج " كان السر مرض مميت لا تعلمه المريضة ، وفي " يوم فاصل في حياة فخري كامل، و "انشراح" تتجلى أسرار الكبار المترعة بالظلم والزيف والألم .
ومن اللافت في قصص "أخت حبيبتي"و"تلصص " أنه يسرد فيهما عمرا كاملا مرعلى الجميع ، يحكي السارد بلسان مراهق في السادسة عشر ،حبيبته كبرت وتزوجت وأخت حبيبته ماتت ، ولكنه لا يعترف بالعمر الذي مر عليه هو نفسه ،يتمسك بمراقبة عوالم الآخرين راصدا ما فيها بعين الطفل الذي لا يكبر في الوقت الذي تكبر فيه كل شخوصه وتأخذ خطها المرسوم في الحياة.
وفي "الشال الأبيض الحرير والشال الأسود الصوف" سيرة حياة كاملة مابين بياض الطفولة وارتباطها في ذهنه ببعض الأحداث والتي انتهت مع دفن أخيه الطفل في الشال الأبيض لتبدأ رحلة المعاناة في المدرسة والحياة .الشال الأبيض الحريري المزخرف الذي كفن فيه الأب طفله الذي لم يتجاوز العام من عمره ، يليق برحلة الموت البيضاء بعيدا عن هموم الحياة وأرقها ، يدفن الشال الأبيض فيتعرى عنق الأب يتلقى عليه صفعات الخطوب التالية والتي ستورثه شالا من الصوف الأسود يليق بسحب المعاناة والقهر التي ستغيم علي حياتهم فيما بعد . وعندما مرض الطفل السارد،أحاطه الأب بالشال الأسود الذي تفوح منه رائحة عرقه ؛ قمة التراجيديا ، يكفن الميت في الحرير الأبيض ، والطفل الحي يكفن في الأسود لتعود إليه الحياة ،وقد عادت بالفعل لتكون المكافأة ثمرة من فاكهة القشطة التي ترمز في تكوينها إلى تعانق الموت والحياة ، بياض شاهق يضم سواد قاتما . فما يؤكل منها فصوصها البيضاء الشهية ،ولكن عليك التخلص من البذور السوداء المختبئة في رحم تلك الفصوص أولا . رحلة حياة كاملة لم يتخل فيها السارد عن مفرداته البسيطة التي وإن كان يستدعي تلك الذكريات بعد أن تقدم في العمر ، إلا أنه يصر على تقديمها من خلال نظرة هذا الطفل أو المراهق الذي لا يفهم ما يجري حوله من طقوس للموت أو للحياة . لا يعترف أن استلاب العمر شيء قاس لا يمكن تداركه إلا بتلك الطريقة المراوغة التي اتبعها الكاتب عندما أخذ قرارا مصيريا بأن يقاوم كل هذا الاستلاب باستدعاء تلك المرحلة على الورق .
وفي قصة " عم حسن الذي لا يبيع ولا يشتري" يظهر السارد أكبر سنا من خلال الوصف الدقيق للفضاء المكاني الذي تمر عليه أحداث القصة ليتجلى مكاوي سعيد كاتب السيناريو. في هذه القصة سيناريو كامل للمشهد وكل ركن فيه ، يصف بالتفصيل المكان والشخصيات الرئيسية . ويهتم اهتماما كليا بالخلفية المصاحبة من أصوات وصور ، يصف طريقة سير الرجل العجوز ونظارته وتعبيرات وجهه ، يصف الشارع والتغييرات التي طرأت عليه ، يعطي وصفا تفصيليا للمحل وخطوط العنكبوت به والتليفون العتيق وعلب اللبن الفارغة والأرغفة السوداء، يصف الأولاد بصخبهم عند الإنصراف من المدرسة وكيفية انتظامهم في صفوف من أجل اغاظة العم حسن العجوز، ويحدد طريقة دخولهم إلى فضاء القصة المكاني والزماني وترتيب دخولهم وخروجهم ، ولا ينسى حركة السيارات في الشارع والأصوات الصاخبة .
وتأتي قصة "عالمي وعالمها " لتغلق دائرة تداعي الذكريات والحنين إلى الماضي ، هنا كبر السارد رغما عنه واستسلم لحقيقة استلاب العمر عندما واجه الحاضر الذي لا يعترف إلا بشهادة الميلاد الرسمية لا تلك المجمدة في أذهاننا عند لحظة فائتة .فلا مجال لتقابل عالمين مختلفين تماما مثلما لا مجال الآن لسيارة الفولكس العتيقة أمام الرولزرويس.
ورغم كل الاسرار التي أفشاها مكاوي سعيد في مجموعته هذه إلا أنه تركنا أمام السر الأكبر ؛وأقصد هذا الإهداء الذي جعله اعترافا بحبه لرفيقة دربه الطويل !!!
مجلة أكتوبر العدد1711

Saturday, August 22, 2009

علاء الأسواني ودوق داركور!!


علاء الأسواني ودوق داركور!!

تُرى ما أهمية التنويه عن المقدمة الجديدة على غلاف تلك الطبعة من كتاب علاء الأسواني"نيران صديقة" والذي ضم رواية قصيرة ومجموعة قصص؟هل ستمثل المقدمة عاملا اضافياً لرواج الكتاب الذي يتصدره اسم علاء الأسواني الغني عن الدعاية والتعريف؟
هل أُريد من التنويه عن المقدمة الجديدة أن تكون حافزا للقارئ كي يقرأ ويكتشف ما الذي دفع الكاتب ليفصل ماذكره مجملا في المقدمة السابقة والمدرجة أيضا في نفس الطبعة؟.
جاءت المقدمة الجديدة في ثلاثة أجزاء بدأها علاء الأسواني تماما كما بدأ رواية شكاجو من قبل، فهو بدأ شيكاجو بمقدمه سردية تاريخية عن أصل كلمة شيكاجو وذكر شيئا عن تاريخ المدينة كتوطئة للفضاء المكاني الذي ستدور عليه روايته . وفي مجموعته "نيران صديقة"بدأ بتاريخ وملابسات أول عرض سينيمائي في العالم وفي مصر ليوضح كيف مر وقت ليس بالقصير ليدرك المشاهد أن ما يراه أمامه معروضا لا يتعدى كونه صورة معكوسة على شاشة من قماش ، ليربط بين محاولة الالتباس التي كانت في ذهن المشاهد وقتها ، وحالة الالتباس التي تتولد في ذهن القارئ للأعمال الأدبية حين يسقط أحداثها على الكاتب نفسه وهذا ما أوضحه الأسواني بقوله "..لكن بعض قراء الأدب لا زالوا بكل أسف ،حتى اليوم ،يمارسون نفس الخلط بين الخيال والواقع ...هذه المشكلة عانيت منها كما عانى روائيون كثيرون.."
اشتمل الجزء الثاني والثالث من المقدمة على تاريخ شخصي لفترة من حياة الكاتب بعد عودته من بعثتة الدراسية في الولايات المتحدة في أواخر الثمانينات وبعض اللقطات من حياته كطبيب للأسنان نهارا ، ومن حياته الليلية كأديب أو ما أطلق عليها ""حياة الأديب الحرة المتخلصة تماما من كل القيود الاجتماعية والأحكام المسبقة ".
يعرفنا على محمود تريبل ؛الشخصية الحقيقية لبطل روايته "أوراق عصام عبد العاطي" ثم معاناته مع موظف لجنة القراءة الذي طلب منه كتابة استنكار للأفكار الواردة في روايته، والآخر الذي طلب حذف فصلين من الرواية .وفي نهاية المقدمة المفصلة والتوضيحية يقول الأسواني :
"هذا تاريخ الرواية التي بين يديك ،أحببت أن تعرفه قبل أن تبدأ القراءة ، وأنا واثق أن معظم القراء سيتفهمون أن الشخصيات الأدبية تمتلك وجودا مستقلا عن المؤلف ..أما الذين سيحاسبونني على آراء البطل ويعتبرونني مسئولا عنها ..فسوف أكرر عليهم باحترام ماقاله صاحب السينما الايطالي ديللو استرولو جويوما للمشاهدين :هذه الشاشة ليست سوى قطعة من القماش تنعكس عليها الصور......"
بعد مقدمة كتلك يحق لنا أن نسأل عما أضافته لنا كقراء وهل أثرت الطبعة الجديدة بالفعل؟
فعلاء الأسواني الذي يسخر من كتابته لاستنكار تلبية لطلب موظف لجنة القراءة في الماضي ، يعود اليوم وبكامل ارادته ليكتب صيغة بالغة الأناقة يتبرأ فيها من أفكار عصام عبد العاطي ،آخذا دور الأستاذ المعلم في توجيه القارئ الغبي الذي يمارس حقه الطبيعي في التوهم والتخيل والاسقاط لأي عمل أدبي .وبهذه المقدمة التعليمية الارشادية ، قطع علينا الكاتب متعة التخيل التي يعطيها الأدب بمحاكته للواقع مازجا إياه بالخيال ، لقد حرم القارئ فرصة التوهم اللذيذ الذي أشار إليه نفسه بقوله في المقدمة" إن جزءا كبيرا من متعة الأدب يرجع إلى أنه يمنحنا سلطة الخيال ،إننا نستمتع بتخيل أحداث الرواية وشخصياتها كما يحلو لنا وهذا التخيل لا يحدث بدون الإيهام".
وبذلك جاءت المقدمة كورقة أخيرة أنهت اللعبة مبكرا جدا وقطعت طريق الفكر لدى القارئ والذي من المفترض أن يكون حرا في تأويله لما يقرأ .فطالما خرج العمل الأدبي من بين يدي المؤلف وتم نشره ،فلا سلطان له بعد ذلك ليمارسه على المتلقي. أما علاء الأسواني فقد فعل تماما مثلما يفعل منتجو الأجهزة الكهربائية حين يرفقون كتيب الارشادات مع منتجاتهم موضحين طرق الاستخدام ، محذرين من الاستخدام الخاطئ وما يسببه من ضرر.
ثم تجيئ الرواية نفسها والتي بدأها الأسواني بشئ من التفكيك أو الهدم لمقولة مصطفى كامل كمثال للمسلمات والأفكار المقولبة سابقة التجهيز . أي وكأنه يقول للقارئ اخلع عنك أفكارك السابقة ، فأنت في حقبة جديدة لا ينفع معها المقولات السابقة ولا القالب الواحد الذي يجب أن نكون جميعا على نفس مقاسه .أي أن الرواية بدأت من نقطة اللاعودة أو من النهاية فعلا لتبدأ بعدها نقطة خروج العفاريت الصغيرة .
وإذا ما قرأنا الجزء الأول للرواية نتذكر على الفور دوق داركور الفرنسي الذي زار مصر ذات شتاء كتب بعده كتابا عام 1893هاجم فيه مصر شعبا وعادات ودين وكل شيء ،هذا الكتاب الذي استفز قاسم أمين وألزمه الفراش عشرة أيام قام بعدها ليكتب بالفرنسية كتابا يرد فيه على آراء دوق داركور ويفندها واحدا تلو الآخر. يتحدث عصام عبد العاطي بلسان دوق داركور ، ويجيء دفاع صديقته الألمانية-المتوهمة - كمتحدثة بلسان قاسم أمين وهي تتحدث بافتتان عن مصر.فهل هناك مغزى من تناص الرؤى ما بين دوق داركور وما جاء في الرواية ؟؟؟ فدوق داركور كتب عن مصر بعد زيارة لها، وكتب علاء الأسواني "أوراق عصام عبد العاطي"بعد عودته من الولايات المتحدة .
وكما هو معروف أن عنوان أي عمل أدبي يمثل أهمية كوحدة نصية موازية للعمل الأدبي يأتي عن وعي الكاتب بأهميته كعتبة أولى لعمله الأدبي ، وفي كون العنوان أول ما يرى القارئ وآخر ما يكتب الكاتب .
ولذلك إذا أرجعنا العنوان "نيران صديقة"كدلالة ما يريدها الكاتب ،خاصة أن العنوان لا تحمله أي من الأعمال المدرجة بالكتاب، نجد أن علاء الأسواني بالعنوان يشير إلى القسم الأول من روايته وكأنه تحذير لطيف يقول فيه لا تخشوا شيئا فالنيران التي سأفتحها عليكم بعد قليل هي نيران محلية الصنع ،وطنية المنشأ ،فهي نيران صديقة ليست أجنبية مثل نيران الدوق الفرنسي . فمن غير المقبول أن يأتي النقد من غربي مثل الدوق الذي لم ير غير الأطفال "ذوي الأطراف الهشة " و"البطون المتكورة" ولكن أوراق عصام عبد العاطي مصرية مائة بالمائة فلا ضير إذا .وعندما يقول عصام عبد العاطي " كان الفراعنة أمة عظيمة حقا ولكن ما علاقتنا نحن بهم؟ نحن نتاج مشوش فاسد لاختلاط جنود الفاتحين بالسبايا من الرعايا المهزومة" ، يتبادر إلى ذهننا فورا مقولة الدوق الذي رد عليه قاسم أمين قائلا" ..ومن المؤكد أن المصريين المسلمين الذين نراهم في المدن وخاصة في الريف ،ليسوا من نسل العرب ،وليسوا عربا إلا باللغة والدين ..."
وكلما قرانا نجد تناصا فكريا يكاد يكون كاملا بين "عصام عبد العاطي" وما كتبه دوق داركور ورد عليه قاسم أمين في كتاب "المصريون "بالفرنسية عام1894. أما عصام عبد العاطي فقد عاقبه علاء الأسواني بالجنون كرد عاقل على تمرده على ثقافة النسخة الواحدة المكررة للأفكار سابقة التجهيز

مجلة أكتوبر العدد1713 .

Saturday, August 15, 2009

"الصرخة"مابين كرم النجار وأم الرجال!!

"الصرخة"مابين كرم النجار وأم الرجال!!

حينما سألوها أيهما أهون ، العمى أم الصمم ، أجابت هيلين كيلر:العمى أهون لأنه يفصلني عن الأشياء ،أما الصمم فيفصلني عن الناس وهذا هو الجحيم.
منذ سنوات عديدة وبالتحديد في عام 1992 شاهدنا فيلم "الصرخة" من تأليف كرم النجارالذي تناول فيه عالم الصم والبكم الذي كنا نجهله تماما .تابعنا بشغف نور الشريف وهو يجسد ببراعة شديدة شخصية عمر الشاب الأصم الأبكم الذي يواجه ظلم المجتمع من حوله الذي لا يعترف بذوي الاحتياجات الخاصة . دمعت عيوننا ونحن نراه وغيره من المعاقين يقعون ضحايا الاستغلال بشتى أنواعه ولا يستطيعون ترجمة ما يشعرون به باللغة المنطوقة ، وإن حاولوا استخدام لغة الإشارة ، لا يفهمهم أحد ،وفي أحيان كثيرة يقعون ضحية الترجمة الخاطئة من الوسيط الذي يحيل الاشارات إلى حديث مسموع .ولكن عندما قرر البطل الأصم الانتقام لنفسه ولزملائه تحول تعاطفنا معه إلى خوف وتوجس ،ونسينا على الفور أنه كان ضحية لعوامل عديدة تحالفت ضده من إعاقة وظروف مجتمعية لم تكن مؤهلة لدمجه وأمثاله في المجتمع .وفي النهاية عندما حقق البطل انتقامه و أطلق صرخته الأخيرة معلنا انتصاره ، شعرنا بالرعب و انتهى الفيلم بعد أن ملأنا خوفا منهم وزادنا ابتعادا عنهم ونفورا على عكس ما أراده المؤلف والمخرج .
وتمر السنوات وتأتي "أم الرجال" لتتناول نفس العالم ، عالم الصم والبكم .تقدمه لنا بصورة متكاملة بآماله وآلامه . تقدم لنا صرخة من نوع خاص ، صرخة أمل ينبع من عالم تعلمه جيدا ،فهي أم لرجلين من هذا العالم ، أحمد وكريم، وأم لمئات آخرين شملتهم بالعناية والرعاية والتواصل .
أم الرجال هي سهير عبد الحفيظ عمر التي حولت محنتها كأم إلى منحة لها ولأولادها في عالم الهدوء والسكون الجبري .حصلت أم الرجال على الماجستير في الصحة النفسية عن أمهات فاقدي السمع وشاركت في العديد من المؤتمرات واللقاءات المعنية بأمر الإعاقة.
في كتابها "قلوب تفيض" عرفتنا أم الرجال على نماذج واقعية من هذا العالم الصامت ،نماذج لم يكن لديها مخرج سينمائي يملي عليهم أدوارهم في الحياة ، ولم تكن أمامهم أضواء وكاميرات واهتمام اعلامي . جميعهم قاموا بأدوارهم بأنفسهم دون الحاجة لدوبلير يؤدي عنهم لحظات كثيرة من المعاناة والألم وظروف عديدة تواطأت ضدهم تريد ذبح آمالهم وطموحاتهم ، هم ببساطة قاموا بكل شيء كصرخة جماعية يعلنون فيها الانتصار على الإعاقة ، يعلنون تصالحهم مع الحياة والمجتمع .تحكي لنا معاناتاهم مع الحياة منذ الميلاد وكيف تكيفوا مع الواقع الذي لا مجال لتغييره .القلوب التي تحدثت عنها أم الرجال لم تستغل الإعاقة كمسوغ للحقد على المجتمع ، بل كانت قلوب تفيض بحب الحياة لأن الاعاقة لم تكن في أرواحهم ولا في قلوبهم البيضاء الخالدة، بل كانت اعاقة في جزء من الجسد الذي وإن طال بقاؤه فسيبلى يوما .
تضعنا أم الرجال أمام مأزق نفسي لنسأل معاقون أم معافون؟؟فنحن بأطرافنا المكتملة وألسنتنا التي لا تكف عن الحركة وبآذاننا التي تعمل ليل نهار نتعلل بالظروف والحر والبرد لنبررعجزنا وتخاذلنا أمام مشكلات عارضة ،فمن منا المعاق ؟؟
النماذج التي تناولتها في كتابها عانت الإعاقة وكل الظروف المعيقة لهم ولكنهم لم يفعلوا مثل الكثيرين منا الذين يفتشون عن شئ يلقون عليه اللوم ،ولم يفعلوا مثل بطل فيلم الصرخة الذي قرر الانتقام من المجتمع ، بل قرروا التغلب على الإعاقة نفسها . تحدثنا أم الرجال عن نماذج تنتمي لعالم الهدوء والسكون ؛عالم الصم ، نتعرف على المهندس تامربهاء الدين أنيس وكيف جاءت على يديه فكرة الجمعية الأهلية للصم والبكم ، وعن أمل عضو هيئة التدريس في المعهد العالي للفنون التطبيقية ،تعرفنا على ولديها أحمد وكريم ، تعرفنا على الفنانة حنان النحراوي التي تحايلت على جهل العالم للغة الهدوء الذي تعيش فيه ، فاختارت لغة قوس قزح لتحدث العالم بفرشاتها وألوانها . أما المحامية ومترجمة لغة الإشارة نادية عبدالله فهي نموذج صارخ لقلب فاض بالحب لعالم الصم الذي انتمى له والدها ووالدتها فقامت بدور الوسيط الناطق منذ صغرها لتربط والديها بالعالم الصاخب ، ثم امتد طموحها لتقوم بالدور نفسه للكثيرين كأول محامية للصم ومترجمة للغة الإشارة . وهناك نماذج أخرى كثيرة . في كتابها تثير أم الرجال سؤالا مهما ،تقول : "حين يمتزج الجهل بالفقر والإعاقة هل تكفي الأمومة قاربا يصل بالأبناء إلى مرافئ الأمن؟
فأغلب النماذج الناجحة التي تناولتها كانت نتيجة أم محاربة لا تستسلم أبدا من أجل طفلها المعاق ،ولكن الأمومة وحدها لا تكفي ، فعملية زرع قوقعة الأذن والتي تمكن الأصم من استعادة جزء كبير من سمعه تتكلف داخل مصر أكثر من مائة وعشرين ألف جنيه، وثمن السماعة الخارجية للجهاز 3000جنيه،وقد تتغير كل عام وثمن السلك الخارجي 300جنيه.
تحلم أم الرجال برعاية دائمة لذوي الاعاقة السمعية وتوفير سماعة طبية لهم على أن يكون من حقهم الحصول على البطاريات الازمة لها كل شهر . وعندما تتحدث أم الرجال عن ضعاف السمع أو الصم والبكم فهي لا تتحدث عن بضع مئات ،بل تتحدث عن 6ملايين مصري أي مايقرب من 9%من عدد السكان . وهؤلاء لهم حقوق في الرعاية الصحية والنفسية والمجتمعية ، ويجب على وسائل الإعلام أن تضعهم في دائرة الإهتمام ، بل يجب أن تتكرر تجربة فيلم الصرخة ولكن هذه المرة ستأتي التجربة بالطريقة الصحيحة ، فلدينا الآن المعرفة الكافية لإنتاج أعمال درامية يشترك فيه أبطال من الصم والبكم في أدوار طبيعية تماما بعيدا عن أدوار المرشد لعصابات التهريب ،و ماسحى السيارات والأحذية .وأخيرا "قلوب تفيض" الذي خطه قلم أم الرجال سهير عبد الحفيظ من المحلة الكبرى هو خطوة صحيحة نحو مجتمع قادر على احتواء كل أبنائه في قلب واحد دون تمييز .

مجلة أكتوبر العدد1712

Sunday, August 02, 2009

صنـدل أحمــــر" ديــــوان الصُـــــرم!!


صنـدل أحمـــر" ديــــوان الصُـــــرم!!

كما جاء الجنرال جورج باتون وأعطى لحذاء الماشو أهمية غير عادية بقوله "": إنّ جنديًا يرتدي حذاءً هو مجرد جندي، ولكنه مع جزمة الماشو فهو محارب "،يجيء الآن سمير الفيل ليعيد الاعتبار لأنواع الأحذية التي ارتضت السكون تحت أقدام منتعليها مختلفي الأمزجة والألوان والطباع في مجموعته القصصية"صندل أحمر" التي تحتوي على عشر قصص تنطلق من وعن عالم تجارة الأحذية.

قبل القراءة، كان علينا تجاوز مجموعة من العتبات اللافتة والغير مألوفة . فالعتبة الأولى هذا الغلاف الذي تتصدره صورة خفيفة الظل تعبر عن عنوان المجموعة ،وتظهر رسما كاريكاتوريا لرجل يمسك مجدافا في قارب على هيئة صندل أحمر ، وما إن نتجاوزغلاف"مخلوف"الموفق ، حتى نجد الإهداء المتفرد والذي لا يأتي إلا على لسان سمير الفيل الذي لا يشبه أحدا ولا يشبهه أحد :

"إلى الجزم ، والصنادل ،واللكلوك ..إلى النعال والشباشب والكعب كباية..إلى كل ما يوضع بالأقدام ويجاور التراب ويداس بقلب ميت ..."

ولكن وعلى الرغم من غواية العنوان ،والاهداء الأول ،والإهداء الخاص الذي خص به الكاتب "الأولاد الحفاة منتصف خمسينيات القرن الماضي ...في حارة قبيلة وحي النفيس.."فالمجموعة لا تتحدث أبدا عن النعال والأحذية والصنادل ،بل تحكي عن البشر الذين يلبسونها ولا يشعرون أنها أجزاء من كائنات كانت يوما حية تشعر وتتألم وتتجول مثلنا .

في هذه المجموعة أو كما أطلق عليها مؤلفها "ديوان الصُـــرم" نتعرف على فلفل البطل المحوري الذي يعاين ألوانا من الزبائن ومن خلالهم يتكشف لنا العالم الفوقي ، أو عالم من يعتلي أعضاء ديوانية الصرم .

اتخذ سمير الفيل محل بيع الأحذية كفضاء مكاني يتواجد به وينطلق منه فلفل مساعد المعلم خليل ، ومن هذا الفضاء نرى بعين فلفل أنواع البشر المترددين على المحل.ومن اللافت أن فلفل سمير الفيل ، مثل فانكا في قصة أنتون تشيخوف "فانكا". فلفل في العاشرة وفانكا في التاسعة. طفلان يعملان في مجال الأحذية ، فانكا يعمل مع "إلياخن" شديد القسوة سيء الطباع ، وفلفل يعمل لدى خليل البطاحي المزدوج المعايير .

يحكي لنا فانكا بقلب الصبي اليتيم، وبعقل طفل محروم من كل شيء ،تتداعي أفكاره بحرية عن جده قسطنطين مكاريتش،عن الكلبة العجوز ‏‏"كاشتانكا" والكلب "فيون" يحكي عن ماضيه السعيد الذي انتهى بموت أمه "بيلاجيا"،يصف حزنه وشعوره الداخلي كطفل ينتظر البهجة التي ستحل فيه بعد أن يتسلم جده الخطاب الذي لن يصل إليه أبدا.

ولكن "فلفل" وعلى النقيض لا يجعل نفسه مركز الحكي أو الأحداث ، بل يظل يراقب الآخرين ويرصد سلوكهم ،ولا نعرف ما يدور بداخله مثلا من أمنيات وطموحات ، وكأن هذا العام الذي فاق به فلفل فانكا في العمر ، عبر به من بوابة الطفولة إلى مرحلة النضج العقلي ليكتفي بالتأمل والملاحظة متجاوزا الهم الذاتي الضيق. وفي القصة الأولى "السيم " يختفي فيها صوت فلفل كمتحدث ويظهر صوت السارد مخبرا عنه، ليقدمه على أنه يتمتع بمهارات خاصة في بيعه للأحذية وكأنه خبير في استراتيجيات الإقناع والتاثير على المتلقي . يعرض أساليب البيع التي يتوقف نجاحها على فهم طبيعة الزبون وما يدور في ذهنه والتنبؤ بسلوكه ورد فعله . ثم تحديد وسيلة الاقناع المناسبة له من بين طرق عديدة مثل "ربط الزبون ،تثبيت الرطل، الهجوم على طريقة ف، المعاكسة ، تدبيس العريس "يشرح لنا كل طريقة كاشفا خبايا هذه التجارة وما فيها من طرق للنصب والاحتيال ،ولكن بتلاوة المقرئ لبعض سور القرآن الكريم يكون كل قرش "حلالا زلالا" كما يعتقد الحاج خليل صاحب المحل.

ومن قصة إلى أخرى يمضي بنا فلفل متجولا لنعرف أنه وكما تتنوع الأحذية في الجودة والنوع والمقاس ،يختلف البشر أيضا وبالمثل في معادنهم ، وفي مظهرهم الذي يخفي أحيانا كثيرة خلاف باطنهم.فالحاج خليل الذي حج سبع مرات لا يتورع عن مواقعة نظلة امرأة العمدة في مخزن الأحذية ، والأستاذ المحامي الثورجي سلم ظهره لحسناء تمتطيه ،ويدور بها في حجرة الصالون وهي تقول"حا..شي....هس"" ، الشيخة جمالات تضع خادمتها الصغيرة تحت تصرف ابن الحاج ،وغيرهم.وفي المقابل هناك نماذج أصيلة مثل "عم جمعة "الاسكافي الذي لم يكن اسكافيا فقط بل"..إنه منقذهم الأبدي من المذلة وكسر النفس...فقد كان عم جمعة سترا وغطاء لسكان السوق .."فهو يرتق المهترئ من الأحذية فلا يرى الناس"أصابعك وقد برزت من الشراب الذي لابد أن يكون مثقوبا هو الآخر".

تحدث سمير الفيل عن "فعل الستر" في بداية قصة "عم جمعة "حاجبا ما يعرفه من أسرار البيوت الليلية لأن "فضح العبد مكروه" . ثم تناول "الستر "مرة أخرى كدور رئيسي تقوم به الأحذية مع الأقدام المندسة فيها فتخفيها كاملة تارة، أو تكشف منها أجزاءا متفاوتة في الحجم .

والستر هو نوع من الاخفاء ، ولكن هل يأتي "الستر" أو الإخفاء عن احترام وتقدير لمكانة الشيء المخفي المستور؟، أم أنه وسيلة إضافية لمحاصرة ومصادرة حرية المستور وايداعه سجنا محكما ؟

في ديوان الصرم هذا يستخدم سمير الفيل نوع الحذاء ولونه للتعبير عن مساحة الحرية أو للتعبير عن آفاق كلمة الستر في معتقد المشترين لأنواع الأحذية . ففي حالة الأسطى داحس يجيء " الستر" كمرادف للسجن فهو يطلب لزوجته الصغيرة ""حذاء حريمي 39أسود مقفول" فاللون كله تحفظ ، وفي لون العتمة أسود ،ومقفول لإحكام القيد على قدم الفتاة الصغيرة التي تزوجها مثلما أحكم قيده على حياتها.

وفي المقابل نجد الفتيات المنطلقات يخترن "حذاء برتقالي بفيونكة"أو "صندل أحمر" ، وجاء نموذج الصندل مع فتيات المدارس اللواتي يستمتعن بمساحة أكبر من الحرية ، فالصندل يكشف من القدم أكثر مما يخفي وهذا رمز للحرية والانطلاق ، ويجيء اللون الأحمر متفردا لافتا زاعقا في وجه كل القيود ، ولذلك تخيره الكاتب ليحمل اسم المجموعة . وتخير مسعود حذاءً من "جلد لميع لا يطلبه غير الموسرين" ليستر اعاقته ،ويصرف الأنظار عن مراقبة عكازه لتنشغل ببريق الحذاء اللميع ،أراد اعجابا يستر به حقيقة فقدانه لساقه اليمنى في حرب بورسعيد .وهكذا جاءت أحذية "ديوان الصرم"بأنواعها وألوانها المختلفة لتناسب نوعية البشر ومتماشية مع مقدار الحرية التي يتمتعون بها ، وتشير في نفس الوقت إلى اشكالية اختلاف المنظور عن المستور.

مجلة أكتوبر العدد1710/1أغسطس2009

Saturday, July 18, 2009

قاسم أمين.. ديور وشانيل!


قاسم أمين ... ديور وشانيل !!

ما إن يذكر اسم قاسم أمين حتى تتعالى أصوات فريقين لا ثالث لهما ، فريق يتهمه وآخر يؤيده والموضوع واحد؛المرأة .
لقد اختزلنا اسم قاسم أمين في خانة الشأن النسائي ، حتى جاء الجيل الجديد الذي ابتدع الفاست معلومة مثل الفاست فود لا يعلم عنه غير أنه هذا الذي اهتم بالمرأة ،فأصبح في ذهنهم لا يفرق عن شانيل وديور شيئا .
قاسم أمين كان زعيما وطنيا ومصلحا اجتماعيا لا يقل أهمية عن الشيخ محمد عبده ،وجمال الدين الأفغاني و عبدالله النديم و أديب اسحق . ولكنه لم يرالوطنية مجرد ثورة ضد الحاكم ،أو صوت يهتف في المظاهرات والمؤتمرات، لينتهي كل شيء بعد ذلك. لقد تمثل مقولة جمال الدين الأفغاني
" ماذا تنفع الحكومة الصالحة اذا كان الشعب غير صالح"
ولذلك جاء قاسم أمين بثورة دائمة وحقيقية على كل النقائص ، كان ينشد الكمال في كل شيء ، أراد تعديل سلوك الأفراد لأنهم هم الوطن ،فنظر إلى المجتمع المصري وشرح طبقاته يريد كشف العلل التي تعيق تقدمه.
أراد معالجة العيوب التي خلفتها سنوات الاستعمار والظلمة التي توالت على مصر وفرضت على شعبها الجهل والفقر مما أفقدتهم الثقة في أنفسهم وفي وطنهم وأضاعت فيهم روح الوطنية وحب الوطن :
"ونحن معاشر المصريين ويا للأسف لا نحترم وطننا ولا نعرفه ،وكثيرا ما نتكلم عنه بالاستخفاف والاحتقار، ونحكم عليه كما نسمع من الأجانب الذين لا يمكن أن يعرفوه كوطن لهم بحال من الأحوال ، وفاتنا أن كل عيب منسوب إليه هو منسوب في الحقيقة إلينا ".
كان يعتبر أن أكبر أعداء مصر هم المصريون الذين نسوا واجبهم نحو وطنهم ، وكأنه يصف حال تلك الفئة التي لا تستريح إلا إذا هاجمت مصر حكومة وشعبا على صفحات صفراء بلون ضمائرهم المباعة .
كان يعلم أن استقلال الوطن لا يأتي بين عشية وضحاها ، فلابد أولا من أن يمارس أفراد الوطن فكرة الإستقلال المقبورة داخل ذواتهم ،وجعلتهم يقنعون بالبطالة والكسل والتراخي انتظارا لوظيفة حكومية :
"نحن كسالى في الصباح وفي المساء،نقوم من النوم كسالى ، ونذهب إلى النوم كسالى ونعيش بين هذين الوقتين كسالى"
كتب قاسم أمين يحث الشباب على العمل والاستقلال "فعلى كل نفس تحترم ذاتها متى كانت قادرة على الكسب أن تكون مستقلة ، غير محتاجة للغير ، تكفل نفسها بعملها ، ولا يباح لها مطلقا أن تكون عالة على غيرها"
نهي عن البطالة والتذرع بعدم وجود وظائف حكومية "كن تاجرا ، كن مزارعا،كن صانعا ،كن خادما،كن كيفما تستطيع أن تكون ،فإنه أحسن لك وللناس مما أنت فيه "
ثم انتقل إلى أصحاب الوظائف يشير إلى ما يفعلونه بعد أن حازوا الوظيفة الحكومية المضمونة الراتب والمركز.
تحدث عن الموظفين الذين يسخرون وظائفهم لأنفسهم ولمعارفهم ، في الوقت الذي تضيع حوائج الغير عندهم "...متى دخل عليه أحد المستخدمين بورقة يريد عرضها عليه،تشاهد تبسمه قد غاب ووجهه تقطب ..."
وأشار إلى الموظف السلبي أو "الفشار" الذي أطلق عليه "الموظف :وأنا مالي "
(الذي يقابلك بغاية اللطف وحسن المحيا والإشارات المطيبة للخاطر،فتظنه شريكك في الإحساس " ولكن إن جاء وقت الجد تجده " بعيدا عنك،أبعد من ساكني القمر إليك ،وترى إذا أمعنت النظر في وجهه كأنما رسمت عليه هذه الكلمة : وأنا مالي ، وأنا مالي ، وأنا مالي"
هاجم الموظف الذي يعلي مصلحته الشخصية على مصلحة العمل والدولة ، أو كما يتردد على ألسنة بعض الموظفين اليوم مبررين تكاسلهم أنهم يعملون على قد فلوس الحكومة .
"لماذا يا ترى يخالف الموظف المصري غيره حتى يعتبر أن منفعته الخصوصية يلزم أن تكون في جميع الأحوال مضادة للمنفعة العمومة ؟؟
هاجم الموظفين المتشدقين بحب الوطن وعبارات الاصلاح حتى اذا نالوا منصبا نسوا ما وعدوا به وما نادوا به، من يقول ما لا يعتقد ومن يظهر خلاف ما يبطن ، من يناصر اليوم هذا ثم ينقلب عليه إذا اتيحت له فرصة أفضل له فيها منفعة شخصية .
حتى أصحاب المعاشات وضعهم في فكره الإصلاحي ، أراد لهم المشاركة في بناء الوطن ،لم يرضه أن يتخلوا عن الحياة لأنهم تركوا الحكومة أو كما يقول مستدركا "من تركتهم الحكومة" يصف حالهم والذي لم يتبدل إلى اليوم :
"تراه كسيف البال آسفا على وظيفته أسفا شديدا ، لأنه يظن –كما اعتاد أهل بلادنا أن يعتقدوا – أن الإنسان قليل بنفسه كثير بوظيفته !"
لقد وصف حال أرباب المعاشات وكأنه يصف الحال نفسه الآن ، يريدون قتل الوقت انتظارا لنهاية العمر التي يستحثونها على المقاهي ، أو جالسين على الأرصفة يراقبون المارة متحسرين على عمر فائت وشباب ولى. يعيب عليهم أنهم ينسحبون من الحياة كلها ويفقدون اهتمامهم بمجريات الأمور لأنهم تركوا الوظيفة الحكومية.
"ولم أر فيهم من أوجد لنفسه عملا يشتغل به بدلا عن وظيفته !!!
كان قاسم أمين يريد تغيير نظرة المصري الذي لا يرى في التعليم فائدة إلا كي يفوز بوظيفة حكومية ويصبح موظفا ،وكأن الوظيفة هي القيمة والغاية من التعليم ،ولذلك لفت النظر إلى تلك الحالة من الاحباط التي تصيب من يحال إلى المعاش وكأن العالم انتهى ،في حين أن الإنسان بيده كل أمره إن تمسك بالعلم والعمل .
".......إن كل انسان قادر على أن يرقى نفسه بنفسه ، وأن يعلو على أكبر ملك في الدنيا بفضيلته وعلمه "
نظر قاسم أمين إلى عملية الاصلاح كعمل وطني متكامل يستلزمه تربية صحيحة لأفراد المجتمع ، اهتم بالأسرة لأنها الخلية الأولى التي يتكون منها المجتمع ، واهتم بالمرأة لأن بيدها تربية أفراد المجتمع ، نقد وضع المرأة الذي لم يتح لها مقدارا من العلم يمكنها من تربية نشء يرفع من شأن الوطن ، كان موضوع المرأة بالنسبة له حلقة واحدة من عدة حلقات اصلاحية .ولذلك من الغبن أن يوجه الاهتمام لجزء واحد من هذا المشروع ويتم تجاهل باقي ما دعا اليه قاسم أمين ، ولعلها فرصة أنادي فيها بضرورة اعادة طبع كتابه "اسباب ونتائج " وتوزيعه على جميع المدارس .

انتصار عبد المنعم
http://www.octobermag.com/issues/1708/artDetail.asp?ArtID=87799

Friday, July 10, 2009

التســكــع الرقمـــي

قديما قالوا " قل لي ماذا تقرأ ، أقل لك من أنت "
واليوم تبدلت المقولة لتكون "قل لي مع أي المواقع الالكترونية تتعامل ، أقل لك من أنت"
ولكن حتى لو سألت هذا السؤال فلن تجد اجابة وافية عند الكثير من الشباب الذين يدخلون إلى موقع ما عملا بنصيحة صديق ، ثم يُسلمهم هذا الموقع لآخر ،وهكذا يمر الوقت وهم بلا هدف يتسكعون على شبكة الانترنت . فهم تركوا التسكع في الشوارع ليمارسونه على شبكة الإنترنت يجذبهم هذا العالم اللامحدود الافتراضي الذي يتيح لهم ما لا يتوافر في عالمهم الحقيقي .
وكما يحدث بين المتسكعين في الشوارع ومقاهي العالم الحقيقي من معاكسات ومشاكسات ومشاكل متنوعة ، يحدث أيضا في مقاهي العالم الإفتراضي . فغرف الدردشة والتعارف والمدونات ما هي إلا مقاه افتراضية للتسكع الرقمي لجأ إليها الشباب كوسيلة للهروب من عالمهم المأزوم يعوضون فيها ما ينقصهم في واقعهم . يرسمون لأنفسهم الصورة التي تستهويهم ،محتمين باسم مستعار . يهربون من تابوهات المجتمع المتوارثة . يهاجمون الدين ويتحدثون في السياسة ،ويتحدثون عن الجنس بحرية ويمارسونه افتراضيا.
فمن ترهبه نظرة واحدة من رئيسه في العمل أو من زوجته ، وجد الفرصة مهيئة ليرسم صورة كاملة لنفسه كبطل سياسي ومناضل، وهذا لا يتطلب أكثر من مدونة مجانية عليها صورة جيفارا واسم مستعار وكلمة رديئة اللغة يسب فيها الحكومة والدولة بمن فيها.وفي لمح البصر يصبح بطلا.ثم يأتي من يشجع أبطال طواحين الهواء ،وتظهر مجموعات من أبطال الوهم لتتوهم أن باشارة واحدة منها سيخرج الشعب المصري يهتف بحياة اسم مستعار لشخص بلا هوية .
أيضا وجد الكثير من الشباب في تسكعهم بين المواقع وغرف الدردشة فرصا لتفريغ طاقاتهم التي عجزواعن اشباعها بسبب الحالة الإقتصادية التي تعيق تطلعاتهم في الزواج وتكوين أسرة ؛ هذا في الوقت الذي وجدوا فيه أنفسهم محاصرين بالعُري المجاني في الشوارع وعلى شاشات الفضائيات المليئة بأجساد شهية محلية ومستوردة زادها الكولاجين والسيليكون جمالا على جمال .
وجاء الازواج بمشاكلهم الزوجية ، فلم تكتف بعض الزوجات بدور المخبر الذي يمارسنه في الواقع ، فجئن ركضا وراء أزواجهن يراجعن تعليقاتهم وتعقيباتهم في مدونات تخص سيدات ، ثم يتفضلن بترك سيل من الشتائم لصاحبات المدونات كأنهن خططن لخطف أزواجهن .
وكما تصادف مختلا عقليا في طريقك إلى العمل، تصادفه أيضا بين المتسكعين الافتراضيين .فظهر مجنون مريم الذي مارس تسكعه هنا وهناك معلنا عشقه لمريم ، ومن أجلها زين مدونته بصور كثيرة لنساء يحملن اسم مريم . وعندما لم تستجب له مريم كتب تعليقات بذيئة وألصقها بها ، ليتضح بعد ذلك أنه يعاني خللا نفسيا خلفته سجون النظام..
أما متسكعي المحادثة على الماسينجر من الرجال ، فهم جميعا ممن يرسمون لأنفسهم صورة الرجل الكامل الذي يبحث عن المرأة الكاملة والتي وللصدف العجيبة تكون في أول سيدة تظهر أون لاين.ثم يتبعه منهج واحد ،ومقرر معاد عن شخصه الفريد الذي لا مثيل له ، وعن تلك التي كان يحلم بها وأخيرا وجدها على الشات .
وهكذا يمر الوقت وتتعاظم أكاذيب المتسكعين ، بل يصدقون أنفسهم ، حتى ما إذا انقطع النت أو انتهت نقودهم فى المقهى الافتراضي ، عادوا إلى طبيعتهم يتسكعون على الأرصفة ريثما يسجلون دخول مرة أخرى فيعودوا إلى تسكعهم الرقمي.
انتصار عبد المنعم

شبكة الإنترنت .....أدب ....وخلافه!



تتنافس الكثير من المنتديات والمواقع والمدونات الأدبية فيما بينها لإثبات جدارتها وتميزها عن غيرها . قد يأتي هذا التنافس في صورة اختراق لموقع ما ، في محاولة لتدمير قاعدة بياناته مثلما حدث مع "دروب والورشة" وغيرهما من المواقع التي صمدت أمام محاولات القرصنة المتتالية .
وقد يكون تنافسا مشروعا يحرص على تقديم نوع مميز من أشكال الأدب .
ولذلك لم تكتف بعض المنتديات والمواقع بأن تكون صفحة لإدراج عمل والتعليق عليه فقط ،بل تسابقت في مجال النشر الإلكتروني لكتب كاملة تضم أعمال أعضائها،بل انطلقت من الفضاء الإلكتروني للنشر إلى النشر الورقي أيضا .
فمنتدى " شبكة القصة العربية" أصدر بالفعل كتابه الأول الذي يضم مختارات من أعمال أعضاء المنتدى الذي يضم أدباء لهم وزنهم من كل دول الوطن العربي ، ويعد حاليا لإصدار كتابه الثاني .
ويبادر "منتدى من المحيط إلى الخليج" فينشئ قسما خاصا بالنشر الإلكتروني أصدر كتبا رقمية تضم أعمال الأعضاء باللغة العربية ، وأيضا كتبا مترجمة إلى اللغات الفرنسية والإنجليزية .ثم توسع ليشمل قسما خاصا بالنشر الورقي ،كان من ضمن اصداراته كتاب (بوسع قلبي ) باللغة البولندية ليصبح في يد أعضاء المنتدى في نفس وقت صدوره ببولندا .

وموقع "الورشة" الذي اتخذ من مقولة أمل دنقل (للحقيقة والأوجه الغائبة ) شعارا منذ نشأته ليرفض التسجيل بأسماء مستعارة أو وهمية ، فأثبت تواجده بقوة في عامين فقط ليضم أدباء وفنانين أثبتوا من قبل وجودهم المميز في ساحة النشر الورقي . ولكنهم اتفقوا على أن يوثقوا صداقتهم في كتاب ورقي مشترك أطلقوا عليه (كتاب الورشة الأول) كمحاولة للقاء أبدي أدبي لا يفرق بين المشرق والمغرب العربي . بل وظهرعلى صفحاتها أدباء لم تتح أمامهم فرص النشر الورقي معتمدين على الموقع الذي أصبح التواجد بين أعضائه شهادة ميلاد لجيل جديد من أدباء العالم الافتراضي .
ومؤخرا ، اتجه الكثير من الأدباء الكبار إلى شبكة الإنترنت بهدف الترويج لإصداراتهم الجديدة أو لحفلات توقيع أعمالهم . فظهرت مدونات ومواقع بأسماء الأدباء ، ومجموعات بريدية تحمل أسماء اصداراتهم .
ولجأ إلى شبكة الإنتنرنت أيضا أدباء المهجر للتواصل مع عالمهم العربي الذي نزحوا عنه بحثا عن فرص لحياة آمنة بعيدا عن القصف والاضطهاد والحروب ، أو لكسر حاجز الغربة المكانية والزمانية .فظهرت أسماء كثيرة لقامات عربية أدبية كبيرة مثل الشعراء يحيى السماوي المقيم في استراليا ، وسامي العامري المقيم في كولونيا ، والأديب التونسي كمال العيادي من ألمانيا .
ووجد الأدباء الذين فرضت عليهم ظروف الحياة والعمل خارج أوطانهم في شبكة الانترنت فرصة دائمة لكسر حاجز القطيعة أو الغياب عن المشهد الثقافي المتنامي بصورة متسارعة ،مثل الشاعر والصحفي محمد عبد الحميد توفيق ، والأديب محمد البوهي في الكويت ، والشاعرين السوري وفائي ليلا والمصري دكتور أحمد يحيى في البحرين .
ووجد البعض فرصا للتواصل والتلاقح الأدبي بين المشرق والمغرب لا تتوافر مع حواجز الجغرافيا والمال والوقت ، مثل الأديبة والمترجمة التونسية آسية السخيري التي تتقدم الكثير من الأسماء في حركة الترجمة من العربية إلى الفرنسية على شبكة الإنترنت .
وهناك أيضا أدباء نشروا أعمالهم في المنتديات والمواقع الأدبية المحترمة ثم قاموا بعد ذلك بتجميع تلك الأعمال ليضمها كتاب ورقي ،ومنهم الأديبة الجزائرية سهيلة بورزق ومجموعتها (كأس بيرة )، بل فعل ذلك الروائي مكاوي سعيد في مجموعته القصصية الأخيرة (سري الصغير ) التي اشتملت على مجموعة من القصص كان قد سبق له نشرِِها نتيا .
وبين كل هؤلاء يوجد مجموعة من الأدباء الحقيقيين الذين لم تتح أمامهم فرص للنشر الورقي فاعتمدوا فقط على المنتديات الأدبية لاثبات تواجدهم .
ورغم كل هذا فالصورة ليست مشرقة دوما ، فهناك الكثير من المنتديات الأدبية لا تتعدى كونها ساحة للتراشق والشجار بين الأدباء . وهناك منتديات ينتحل أصحابها صفة الحفيد أو الوريث الشرعي لكاتب راحل كبير ، ثم يقوم بتوجيه إيميل لقائمة طويلة من الأسماء يقوم بتجميعها من هنا وهناك ، يخبرهم جميعا أنهم من المحظوظين الذين وقع عليهم الاختيار ضمن أفضل مائة أديب عربي وأن هناك احتفالية على شرفهم في منتداه ويعطيهم جميعا نفس الرابط . ثم يتحول المنتدى إلى قعدة مصاطب للترحيب والتهنئة بالعضو الجديد الذي لا يعرف أنه أصبح عضوا رغم أنفه ، بل ويتم استغلال اسمه لضم أعضاء جدد .
وظهرت أيضا مدونات أدباء الدقيقة والنصف ، أو أدباء القص واللصق ، الذين يسرقون ما كتبه الآخرون مع بعض التصرف بالحذف أو الإضافة . وفي لمح البصر يتلقى الترحيب والإشادة بهذا الإبداع من أمثاله من أدباء الفجأة . ثم يصدق نفسه و يبدأ في نقد المشهد الثقافي المتردي الذي لا ينتبه لأمثاله من أدباء النقرتين ؛ قص ولصق.
انتصار عبد المنعم

القراءة الإلكترونية.. بين الضرورة والترف


هل القراءة الالكترونية ضرورة من ضرورات الحياة أو ترف طارئ؟

كان من المنطقى أن نسأل أنفسنا هذا السؤال بعد أن حذرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الالسكو) من خطورة تنامى ظاهرة الأمية فى الوطن العربى فى تقريرها الذى صدر مؤخرا، وأشارت فيه إلى أن عدد الأميين بلغ حوالى 100 مليون نسمة على الرغم من كل الجهود المبذولة للحد من تلك الظاهرة. وكما أوضحت المنظمة فإن 75 مليونا من إجمالى الأميين العرب تتراوح أعمارهم بين 15 و45 عاما، وتزيد معدلات الأمية بين النساء، حيث يعانى قرابة نصفهن منها (46.5%).ويقول التقرير: كانت الأمية فى الوطن العربى عام 2005 سبعين مليون أمى فى المرحلة العمرية فوق الخامسة عشر (35% من إجمالى عدد السكان) وفى عام 2008 ارتفع تعداد الأميين إلى 100 مليون (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم).الملاحظ هنا أننا نتحدث عن الأمية البدائية المحصورة فى الكتابة والقراءة التى تتزايد يوما بعد يوم ليرتفع العدد من سبعين مليونا إلى مائة مليون من مجمل مجموع سكان المنطقة العربية، نتحدث عن أمية قرطاسية الورقة والقلم، فى حين أن العالم الآن حين يتحدث عن الأمية فهو يقصد أمية التعامل مع معطيات التكنولوجيا الحديثة أو ما نطلق عليها الأمية الالكترونية.ولذلك فى ظل أمية القراءة والكتابة أصبحت القراءة العادية بمفهومها المنسحب على الكتاب الورقى العادى فى وجهة نظر 100 مليون مواطن عربى أمى نوعا من الترف لا يقدر عليه إلا النخبة المثقفة، التى نالت حظها من التعليم الذى يؤهلها لتصفح كتاب أو صحيفة.وبالتالى تكون القراءة الالكترونية فى نظرهم مجرد مصطلح مبهم، ولا مقابل له فى حياتهم اليومية غير أننا استبدلنا ورق الكتاب المألوف بشاشة حاسب آلى ينظرون إليها على أنها صندوق عجائب بعيد المنال.وذلك يعيدنا للسؤال الدائرى ترف أم ضرورة؟وتتبادر للذهن إجابة وحيدة، وهى أن القراءة الالكترونية ليست وحدها التى تعد ترفا بل كل ما يتعلق بالشبكة العنكبوتية وذلك لعوامل كثيرة منها:أولا: الأمية الالكترونيةفالتعامل مع الحاسب الالكترونى يفترض فى المستخدم أن تكون لديه خلفية جيدة من التعليم تمكنه من التعامل مع أجزاء جهاز الكمبيوتر ذاته وبرامجه ولديه القدرة على التعامل مع مدخلات ومخرجات هائلة من المعلومات، وهذا ما عّبر عنه بالمصطلح «المعرفة المعلوماتية» وهذا فى حد ذاته يفوق حتى قدرة الأشخاص الذين لا يندرجون بأى حال من الأحوال تحت بند أمية القراءة والكتابة، فالوصول للمعلومات المطلوبة يتطلب التعامل ليس مع معطيات اللغة وهى العربية بل الإلمام باللغة الإنجليزية أيضا، مع ملاحظة أن المحتوى العربى على الشبكة الدولية للمعلومات (الانترنت) لا يتعدى 3% من إجمالى المحتوى العالمى كما ذكرت دراسة حديثة أعدتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الاسكوا).وهكذا نجد أن 100 مليون مواطن عربى أصبح محكوما عليهم بالعيش فى عزلة مزدوجة، وأصبح الفرد منهم رهين محبسين، رهين جهله بالقراءة والكتابة من ناحية، ومن ناحية أخرى جهله بما تقدمه شبكة الانترنت من تسونامى هائل من المعلومات، ولذلك يصبح لدينا أمية من نوع جديد ولا خلاف عليها، وهى الأمية الالكترونية التى تعانى منها كل الشعوب العربية، حيث لا تتجاوز نسبة مستخدمى الانترنت فى الدول العربية إلى عدد المستخدمين فى العالم حوالى 7% ومعدل انتشار استخدام الانترنت بين السكان العرب لا يزيد على 6% وهو بذلك من أدنى المعدلات العالمية.وحسب التقرير الثانى الذى أصدرته (المبادرة العربية) www.openarab.net-repertsأنه حسب آخر المعطيات فإن عدد المستخدمين للانترنت فى البلاد العربية تضاعف خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ليقفز من نحو 14 مليون مستخدم فى منتصف يونيو 2004 ليصل فى نهايات عام 2006 إلى نحو 26 مليونا.أى أننا نتحدث عن شأن خاص جدا لا يتعدى 26 مليون مستخدم أغلبهم من الشباب الذين يتعاملون مع الانترنت فى البيت، والمدرسة والجامعة وفى مقاهى النت المنتشرة بصورة واسعة فى كل البلدان العربية ولو اعتبرنا جدلا أنها نسبة جيدة فالسؤال هو ماذا يقرأ الشباب؟.. وماذا يفعلون بالنت؟.. وهل استخدامهم للنت إيجابى أم سلبى؟.ثانيا: الحالة الاقتصاديةالحالة الاقتصادية للدول تتدخل وبشكل رئيسى فى هذا الأمر، فلابد من وجود شبكة كهرباء جيدة، وشبكة اتصالات حديثة للتعامل مع شبكات الانترنت، مع مراعاة توافر تلك الخدمات فى القرى والأماكن النائية مثلها مثل المدن، وينسحب هذا كله وبشدة على الأفراد، فالتعامل مع معطيات التقنية الحديثة يعتمد أيضا على المقدرة المالية للأفراد التى تمكنهم من امتلاك جهاز كمبيوتر والاشتراك بشبكة الانترنت أو على أقل تقدير استخدام مقاهى النت وكل هذا يتطلب مالا..وحسب تعريف البنك الدولى فإن أكثر الفقراء بؤسا هم (من يعيشون بدولار واحد فى اليوم) وعلى هذا الأساس يوجد ما يقرب من 60 مليون عربى يعيشون تحت خط الفقر معظمهم فى مصر والأردن والمغرب والسودان وسوريا وفلسطين واليمن 2005.وحسب تقارير شبكة CNN أن 70% من الفلسطينيين يعيشون تحت خط الفقر، ونسبة البطالة تجاوزت 80% فى الضفة الغربية وغزة 2007.وتبلغ النسبة فى القدس 68% حسب الجبهة الإسلامية المسيحية للدفاع عن القدس والمقدسات (2008) وحسب وزير التنمية الاقتصادية المصرى فإن نسبة الفقراء فى مصر تبلغ نحو 20% بما يعادل 14 مليون مصرى (8/19/2007).فهل نطالب من اجتمعت عنده أمية القراءة والكتابة بالفقر بأن يكون قارئا رقميا؟ثالثا: القراءة الالكترونية انتقائية:هذا على العموم والسائد لا على الاستثناءات الموجودة فى بعض الدول وفى بعض المراكز المتخصصة، فالقراءة الالكترونية تعتمد وبصورة أساسية على حاسة البصر مثلها مثل القراءة العادية التى تعتمد على الكتاب الورقى، فعلى الرغم من وجود البرامج التى تضع فى اعتبارها أن هناك متصفحين من ذوى الاحتياجات الخاصة من المكفوفين، فإن النسبة الأوسع من المواد المتاحة على شبكة الانترنت تفترض أن المتعامل معها لا توجد لديه مشاكل إبصار، متجاهلة بذلك 170 مليون نسمة هم عدد المكفوفين وضعاف البصر فى العالم (مركز دراسات وأبحاث المعاقين) وحسب (كونا) يوجد فى الوطن العربى حوالى 4 ملايين كفيف، وفى تقرير جيف آدامز مراسل (بى. بى. سى) لشئون المعاقين تحت عنوان (مواقع الانترنت «تخذل» المستخدمين المعوقين) أظهر تحقيق أجرته لجنة حقوق المعاقين أن أغلب المواقع على شبكة الانترنت تعد صعبة الاستخدام بالنسبة للمعاقين، والقليل من المواقع تهتم بتوفير المعلومات بطرق خاصة بالمعاقين.وتبقى مشكلة التعامل مع الانترنت فالقارئ الآلى يساعد الكفيف فى قراءة الكتب والمستندات المطبوعة والملفات الالكترونية ويمكنه كذلك من كتابة نصوص عربية أو إنجليزية، وحفظها بطريقة برايل، إلا أن المشكلة تكون فيما يتعلق بالانترنت فلا يوجد متصفح يمكن الكفيف من التعامل مع الصفحات التى تحتوى على النصوص المدرجة على شكل ارتباطات أو صور.. فتكنولوجيا الصور مثلا لا تستطيع طريقة برايل حتى الآن التعامل معها، هذا بالإضافة إلى مشكلة الجرافيك والارتباطات وصعوبة الوصول إلى أرشيف المواد المحفوظة.وهكذا ما بين الضرورة والترف يظل السؤال معلقا ينتظر إجابة.. ربما تأتى من إنسان تخلص من هم المعدة لينشغل بالقراءة سواء ورقية أو الكترونية

قلب الكاوبوى لا يتسع لأسودين!

إننى أحلم اليوم بأن أطفالى الأربعة سيعيشون يوما فى شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم، ولكن بما تنطوى عليه أخلاقهم
.
قالها مارتن لوثر كنج فى الوقت الذى كان هو وغيره من زنوج أمريكا يناضلون من أجل مقعد أمامى فى وسيلة مواصلات مثلهم مثل بيض البشرة، وعندما جاء الوقت لتحقيق الحلم، واستقل أوباما حافلة التاريخ من أوسع أبوابه الأمامية كرئيس لأمريكا العظمى، كان لابد من فتح باب خلفى يخرج منه زعيم أسود آخر، وخرج مايكل جاكسون. أشهر قليلة تفصل بين تنصيب أوباما ورحيل مايكل جاكسون، وكأن العالم لا يتسع لملكين أسودين كل منهما متوجا على مملكة من نوع خاص، أوباما كأول رئيس أسود فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، ومايكل جاكسون ملك البوب وأسطورة الغناء الذى تسلم 6 أرقام قياسية من موسوعة جينيس، وأول مغن أسود يتم عرض كليباته فى محطة MTV.ولد مايكل جاكسون فى شهر أغسطس، وكذلك أوباما ولد فى نفس الشهر يفصل بينهما ثلاث سنوات، جاكسون فى عام 1958 وأباما فى 1961. بعد ميلاد أوباما بسبع سنوات امتدت يد بيضاء لتغتال أحلام مارتن لوثر كنج فى فبراير 1968، فتضع نهاية حياة أول زنجى تمنحه مجلة “تايم” لقب “رجل العام” وأصغر رجل فى التاريخ يفوز بجائزة نوبل للسلام عام 1964 وعمره 35 عاما.يولد أوباما، فيترجل مارتن لوثر قسرا تاركا له صفحات التاريخ تنتظر توقيعه الرئاسى، يأتى أوباما رئيسا محققا حلم كنج، فيترجل الملك مايكل جاكسون.ألا يتسع قلب الكاوبوى لزعيمين يحملان جينات اللون الأسود؟