Monday, November 30, 2009

الثقـــافة... المفهــوم.. والأزمـــة


وتبقى كلمة «الثقافة» كما هى واسعة الانتشار سهلة اللفظ، ويبقى مفهومها غامضا ملتبسا، وهذا ما جعل بعض المثقفين ممن يهتمون بالشأن الثقافى يكتبون موضحين إشكالية المفهوم والتناول. ويأتى كتاب «الهجرة إلى الداخل» للناقد والكاتب الصحفى أحمد سماحة ليضم مجموعة من المقالات المعبرة عن تلك الإشكالية سواء فى مفهوم الكلمة نفسها أو فى الواقع الثقافى بوجه عام.ففى مقال «الثقافة المفهوم والأزمة» يشير سماحة إلى الخطأ الشائع الذى يقتصر فيه الاهتمام بالأفكار كترجمة وحيدة للثقافة أو أن يكون الكتاب والشعراء هم أهل الثقافة دون غيرهم. بل يدلل على تجاوز المعنى القاصر المتعلق بالأفكار ليشمل ما هو أوسع وأشمل مثل التراث سواء كان ماديا أو روحيا. يقول: «فبقدر ما يكتسب هذا الفرد من هذا التراث ويتفاعل معه تكون ثقافته وأسلوب حياته وفهمه للأشياء وموقفه منها- أى صلته بها- وبقدر ما يكون الوعى بكيفية نقل هذا التراث إلى الفرد- التعلم- وتوجيهه بقدر ما يكون وعياً لمفهوم الثقافة».يناقش الكاتب أيضا الحديث الدائر عن أزمة الثقافة يطرح بعده عدة أسئلة ليفتح باب النقاش من أجل بيان أسباب الأزمة وتحديد سبل مواجهتها. ولا ينتهى شأن الثقافة بانتهاء هذا المقال بل يمتد لمقال آخر تحت عنوان «قضيتان فى الفكر والثقافة»،مشيرا إلى ضياع الاهتمام بالقراءة كوسيلة من وسائل المعرفة وتكوين الهوية، ويذكر إحصائية هيئة اليونسكو لعام 80 التى ذكرت أن « أوربا الغربية التى يسكنها 4.5 فى المئة من سكان العالم، تقرأ 29 فى المائة من الصحف الصادرة فى العالم، و 45 فى المائة من الكتب التى يقرؤها العالم « بينما يبلغ تعدادنا كعرب أيضا 4.5 فى المائة من سكان العالم، ولا نقرأ ما يتجاوز نسبة (1 فى المائة) من الصحف، وأيضا (1 فى المائة) من إنتاج الكتب فى العالم. وتحت عنوان «الثقافة البصرية وإشكالية التلقى» ذكر أحمد سماحة أن التلقى البصرى أصبح من العناصر المهمة فى تشكيل الوعى لدى قاعدة واسعة من المتلقين الذين كانوا يواجهون صعوبة التلقى عن طريق الكلمة المطبوعة «..لكونه يملك التغير النوعى فى الخطاب الذى يبثه، وله طابعه التأثيرى المباشر، وجمالياته الخاصة، وقدرته الفائقة على الإيهام بالمصداقية، ولأنه يموج بالحركة التى هى سمة الحياة».وإذا كانت المقالات السابقة تتناول الثقافة فهناك غيرها تتناول المثقفين، ففى مقاله «الهجرة إلى الداخل» يذكر سماحة هجرة الكاتب الألبانى إسماعيل قدرى إلى باريس، تاركا وراءه فى وطنه رصيدا طويلا من الإبداعات والانجازات، وبعد أن كافح طويلا من أجل التغيير وحرية الإنسان، ترك كل هذا ليعيش هجرته فى باريس. وفى المقابل تأتى هجرة الكاتب السوفيتى الراحل سولجنستين التى اختارها لتكون هجرة أو عودة إلى الداخل بعد أن عاش فى المنفى طويلا ونال من الشهرة فى خارج بلاده ما نال. لا يعطى سماحة تفسيرات ولا مبرارات لموقف الكاتبين، بل يرصد الحالة «ليبقى السؤال لماذا؟ متأرجحا بين الداخل والخارج لا يجد الإجابة متى بقيت إنسانية الإنسان موضع انتهاك ومساومة».وعن جائزة «نوبل.. البريق واللعنة» يربط سماحة بين لعنة نوبل ولعنة الفراعنة فى المصير الحزين الذى كان من نصيب من نال الجائزة العالمية، فالشاعر الإيطالى جيوس كاردوكس الذى حصل عليها عام 1906 توفى بعد أربعة شهور، والروائى الإنجليزى جالسورنى توفى بعد شهرين من حصوله على الجائزة عام 1932، وسارتر مات بعد ستة أشهر، أما إرنست هيمنجواى الذى نال نوبل عام 1954 فقد انتحر بإطلاق الرصاص على نفسه، والروائى اليابانى كاواباتا ندم لأنه لم يرفض الجائزة عام 1968 وآثر الانتحار لأن الجائزة أصابته بعد أن نضب إبداعه وفقد القدرة على الكتابة، وألبير كامى الذى حصل على الجائزة عام 1957 دهمته سيارة وتوفى عام 1960، أما نجيب محفوظ الذى حصل عليها عام 1988 فقد تلقى طعنة سكين فى رقبته ثمنا لشهرته وإبداعه وحصوله على نوبل التى زادت من شهرته.وعلى هذا النهج تسير باقى مقالات الكتاب تناقش وتثير العديد من القضايا ذات التماس المباشر وغير المباشر مع الثقافة والمثقفين والأدب والنقد بل يتناول السينما «بين الروائى والتسجيلى» وهذا ما يثير فضولنا لنتعرف على النتاج الأدبى من شعر ونقد وكتب عن السينما وحوارات متنوعة حملت توقيع الكاتب.
فأحمد سماحة شاعر صدر له حديثا ديوان «خوف يرقبنى» باللغة العربية الفصحى والذى يُخيل إليك بعد الانتهاء من رحلة الغوص فى أحرفه وخلجاته أن الفصحى هى مجال سماحة الوحيد. ولكن من يعرف الشاعر عن قرب يعرف أنه يتمتع بلقب «مهندس القصيدة العامية» هذا اللقب الذى أطلقه عليه رفيق تجربته الشاعر الكبير محمد الشهاوى ليلتقطها بعد ذلك الراحل محسن الخياط ويكتب عن صاحب اللقب مرات عديدة متناولا عناصر التجديد فى قصائده. كانت أولى تجاربه العامية بعد نكسة 67 ليكتب: تبارك الوهاب/ اتفرفطت فى الصحرا شجرة اللبلاب/صار للبكا وطن/ صار للفجيعة كتاب/ واتقفلت بيننا/ وبين سينا الحبيبة/ ابواب.وهكذا من رحم اليأس تفتق ينبوع الشعر ليكتب بعدها قصيدة «حكاية الولد أحمد» ويحصل عنها على جائزة فى مسابقة رسمية كان يرأس لجنة تحكيمها الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور. يبتعد فترة ابتعاثه خارج مصر ليعود وقد تشعبت خلايا الثقافة لديه ليهتم بالنقد الأدبى والسينما فيكتب «الزمن فى السينما» و «السينما التسجيلية فى مصر». وعلى الرغم من كم القصائد التى كان ينشرها فى الصحف المصرية والعربية إلا أنه لم يهتم بجمعها كدواوين، ولكن الأصدقاء المقربين من الأدباء مثل محمد الشهاوى وعلى عفيفى وإبراهيم قنديل قاموا بجمع بعض أشعاره فى ديوان «مراية النار». ثم تتوالى الإصدارات ما بين شعر العامية والفصحى مثل «حكاية الولد أحمد» و «خوف يرقبنى».شارك أحمد سماحة فى تأليف 12 كتابا مع مجموعة من الكُتاب فى السعودية، وشارك فى لجان تحكيم للأعمال الأدبية فى السعودية والخليج، كما شارك فى العديد من المهرجانات العربية، ويرأس حاليا القسم الثقافى وقسم الرأى بصحيفة عربية.
مجلة أكتوبر العدد1727

Sunday, November 15, 2009

المثـقــف العربـــى "أيــن "و"مـــاذا"؟

كان من المنطقى أن نتساءل عن دور المثقف العربى فى الحياة الثقافية ونحن نشهد اقامة العديد من المؤتمرات والمهرجانات والمسابقات الأدبية . فمنذ أيام قلائل انتهى ملتقى القصة القصيرة وفاز فيه السورى باسم الشمالى بجائزة يوسف ادريس بينما ذهبت الجائزة الكبرى إلى القاص الكبير السورى «أيضا» زكريا تامر. ومن قبله انتهى المؤتمر الرابع والعشرون لاتحاد الأدباء والكتاب العرب دورة القدس فى الجماهيرية العربية الليبية ، وبعد عدة أيام قادمة ستشهد الأقصر مهرجان طيبة والذى سيحل عليه بابلو كويلهو ضيفا ، وبعده مؤتمر أدباء مصر الذى لم يستقر الرأى بعد على موعده ومكانه . وهكذا هنا وهناك مناسبات أدبية عديدة لم تعد تفرق كثيرا بين جنسية المشاركين فيها ، فقد اكتسب الجميع هوية واحدة وهى هوية الثقافة والأدب . ولذلك وعلى الرغم من الواقع الذى قد يظهر مساحة البون بين البلدان ، إلا أن هناك أقلاماً مازالت تكتب من أجل ترميم هذا الواقع مؤمنة بأن الثقافة من الممكن أن تكون حائط صد فى مواجهة حالة التشظى التى نعانى منها كشعوب ودول عربية وجدت نفسها فجأة وبدون مقدمات فى مواجهة عالم مفتوح على كل المستويات الفكرية والثقافية والاجتماعية.
ومن الأسماء التى آمنت بالامتداد الطبيعى للثقافة على رقعة الوطن العربى والتى سيجرى تكريمها فى مؤتمر أدباء مصر لهذا العام ؛ الروائى والناقد المسرحى ابراهيم جادالله ، الذى عمل كخبير للمسرح بجامعة الدول العربية عامى 82 و 83، ومستشارا للمسرح بمكتب وزير الثقافة اليمنى ،إلى جانب التحكيم فى كثير من التظاهرات الأدبية والثقافية عربيا ومحليا . له العديد من الأعمال الأدبية مابين مجموعات قصصية وروايات ودراسات نقدية جميعها تعكس رؤيته التى لا تعترف بالحدود فيما يتعلق بالثقافة والفن والأدب،بل إنه يؤمن أن فعل الكتابة نفسه «فعل مشاركة حقيقى نوع من أنواع زواج المشاعر والأفكار،ولو مؤقت آنى وسريع بين طرفين مختلفين ومتباعدين «»
فى كتابه «شدو طائر عربي» جمع باقة من الحوارات التى تناولت الكثير من القضايا الفكرية والثقافية والابداعية والفنية من وجهة نظر مجموعة من الأدباء والفنانين العرب مثل الكاتب المغربى محمد شكرى صاحب «الخبز الحافي» والشاعر اليمنى الدكتور عبد العزيز المقالح ، والفنان المسرحى التونسى المنصف السويسى ،والفنان المغاير مارسيل خليفة ، والروائى السعودى عبد الرحمن منيف ، والروائى الجزائرى واسينى الأعرج ، وأيضا الروائى يوسف القعيد الذى يصفه بأنه «من أبرز كتاب جيل الستينات فى مصر والمنطقة العربية ومن أكثرهم وعيا وفهما للواقع العربى وطموحاته ، نهوضه وسقوطه وانكساره وتحدياته «». ويجىء كتاب إبراهيم جاد الله «بيت من زجاج وحجر» ليعكس وبجلاء تلك الرؤية التى تتشبث بحلم القومية ، ولكن ليس بمفهومها العادى المنسحب على الجنس كعرب فقط ، بل يتحدث عن الثقافة الواحدة فى تجذراتها المتشابهة ، وفى ثمارها وتبرعماتها المتنوعة يضم الكتاب مجموعة من المقالات التى تتناول وكما يذكر الكاتب نفسه «»رؤى مغايرة عن أفكار عابرة ، تحاول استباق المألوف أو تجاوزه، وأخرى متجذرة تجذر اليقين».
يتحدث عن الثقافة واشكالياتها وعن المثقف الذى يصفه بأنه «مسكين ويكون أكثر مسكنة إذا كان مبدعا أديبا أو شاعرا او صحافيا» وذلك لأنه»أضعف حلقات السلسلة الثقافية التى تتكون من مبدع وقارئ ووسيلة نقل للإبداع»
وفى مقال بعنوان «سؤال الكتابة وخيارات الكاتب «يطرح الكاتب سؤالاً : « ما الذى نكتبه اليوم؟»مفرقا بينه وبين سؤال آخر لا يقل أهمية «ما الذى نكتب عنه؟» بعد أن حلل اتجاهات الكتابة ومقاصدها منتهيا برأى قد يراه كثيرون منطقيا ، بل ربما يكون هو الحل الوحيد لتقبل الرأى الآخر «ليس المطلوب أن يبحث الكاتب عن قضية كى يعتنقها ، ولكن من الضرورى ألا يتجاهل أو ينكر القضايا القائمة».
يتناول الكاتب أيضا قضية الرقابة على الإبداع والتى لا تقتصر على الرقابة الرسمية التى تمارسها بعض جهات القراءة والنشر بل تمتد إلى الرقابة الذاتية أو «الأهلية أى التقاليد والأعراف الدينية والاجتماعية»، وتناول أيضا ما أسماه «لغة الاحتراب ،والمدارس الأدبية» ليتحدث عن انتهاء عصر المدارس الأدبية المقولبة التى راجت فى الستينات من القرن العشرين وعن محاولة بعض الحداثيين استنساخ اتجاهات جديدة من تلك المدارس التى فقدت بريقها السابق.
لم تقتصر مساهمات الروائى ابراهيم جادالله على الاعمال الفردية أى التى يتصدر اسمه غلافها متفردا ككاتب يمتلك العمل ،بل لقد كان له سبق فتح طاقة العمل المشترك فى عمل واحد ،بل لقد تحدى حدود الجغرافيا التى نشأ رافضا لها منذ تشكل وعيه القومى ليكتب رواية «ايميلات تالى الليل» بالاشتراك مع الأديبة العراقية كلشان البياتى وذلك باستخدام تقنية الايميلات والعمل عن طريق التواصل عبر شبكة الانترنت التى أزالت كل الحواجز لتخرج الرواية المشتركة لافتة فى مضمونها وفى التقنية المكتوبة بها
مجلة اكتوبر العدد1725.

Wednesday, November 11, 2009

" اكتبــي فالكتابة عناقنـــا الأبـــدي!!


" اكتبي فالكتابة عناقنا الأبدي!!
"أن تكتب يعني أن تهجر معسكر القتلة " قالها كافكا وعشتها أنا. المدينة مليئة بالقتلة؛ قتلة الأحلام والطموحات، المدينة بلا قلب مثل سمكة قرش تنهش ولا مفر، فمن الشمال البحر ومن الجنوب البحيرة وعلى مد البصر يقف القتلة متحفزين لمن تسول له نفسه الهرب من تيه الأحراش .
كان لابد من الهروب والأبواب كلها موصدة . سجنوا الجسد فانطلقت الأحلام خلف الأسوار مع فعل "إقرأ" وكلما قرأ ازداد الجسد خفة واكتسب كيانا من أثير يعبر به فوق قيده الزماني والمكاني ليتجول في أركان الدنيا ، يبكي لموت ماجدولين وأوفيليا ، يفرح مع كوزيت وماريوس ، يقف خلف المتاريس مع جان فالجان ، يراقب شجرة اللبلاب وغصن الزيتون ،يطرب لعصفور من الشرق ، وهناك في أقصى الشمال يبحث مع فانكا عن قسطنتين مكاريتش ، يجمع مليون وردة حمراء مع آلا بوجاتشوفا ويستنشق عبير الزهور التي لا تنبت في أحراش المدينة المفعمة بالحزن . عندما رأى "حسن "أول قصة وعد بفتح أبواب السجن لأطير بعيدا ولكن حسن كان أول الخونة فقد مات ، وتبعته خيانات الرحيل العديدة لكل الأحبة ، ولكن مع كل رحيل كان هناك سطر ينقشه رسام الحروف في الذاكرة ليتحول بعد عمر إلى قصص وروايات . يعود الجسد إلى فعل "اقرأ واحلم " مرة أخرى، و في كل لحظة حلم ورحلة وعالم حر واسع حتى امتلأ النهر وأوشك على الفيضان ولكن أين عصى موسى لتعطي أمر الفيض بالكتابة ؟
وذات حلم جاء المخلص أخيرا وأشار إلي هامسا " اكتبي ، فالكتابة عناقنا الأبدي!"
فتح لي أبواب فراديس الروح ، أخيرا سيكون بيننا عناق ، أخيرا ستسري في تكويني حرارة كينونته بلا حدود ولا حواجز . توضأت بفيض نوره وامسكت بالقلم ، استعذت من سجن المدينة وبدأت أكتب وأقدم للبحر قرابين من خلجات ورؤى عوالم كانت مخزونة لسنوات عجاف عديدة . وبدأ فعل "اكتب" ينهمر . أكتبني غجرية وجيشا وعقيم وعفريتة ، اكتبني ما أشتهي ، أرسمني شقراء وسمراء وفتفوتة .أكتبه وأرسمه حنونا وقاسيا ، عاشقا وخائنا ،أوبحرا متيما . صرت حرة أخيرا ،أمسك القلم أينما ووقتما أشاء ،أستدعي كل الراحلين ، وأعدل من مصائرهم في مملكة الحروف المقدسة . أدركت حورية البحر أخيرا أن خلودها بين دفتي كتاب ، أن مجدها غزل لخيوط من أحرف . أدركت أنها منذورة للكلمة التي لن تقايض عليها أبدا ، تحجز بها مكانا تحت شمس تاريخ يدونه عجوز خرف معصوب العينين .
تكتب لأنها تدرك أن حروفها ستعانق الغائب جسدا الحاضر روحا وقلبا وبحرا .تكتب وتكتب عله يرى اسمها مكتوبا على غلاف كتاب أو صفحة مجلة فتعانق عيناه حروف اسمها . تكتب لتستوطن كتابا ربما تمسه أنامله يوما أو لربما يضعه على وسادته ليستقبل أنفاسه يمنحها بعضا من عمر فتعرف أنها على قيد الوجود في قلبه مازالت .
انتصار عبد المنعم
مجلة الثقافة الجديدة عدد نوفمبر 2009