Saturday, January 30, 2010

الذكرى الأولى لصعود الأديب فتحـــي سعـــد


فتحي سعد و الخروج من زاوية العتمة أخيرا!!
فتحي سعد ؛ صوت جنوبي رحل سريعا كأغلب الأصوات المترعة بعبق الأسطورة ورحيق الأصالة . عاش يستحضر إيزيس في أعماله ، يحلم بها تلملم تشظياته المتعددة . يراها تركض في خلايا جسده تقاسمه أحلامه المشنوقة ، تجلس معه على مقاهي الحزن ، يرى فيها وجهه المشرق في اكتمال القمر . يراها قارئة فنجان تكشف له ما وراء الحجب ، تفصله عن العوالم المكتظة بالإزدواجية وإن لم يكن هناك مفر غير الجنون الذي وجد فيه أحيانا البدائل المنطقية لحيوات تغص باللامنطقية.كتب فتحي سعد القصة القصيرة بأسلوب متفرد جمع فيه الحياة والعدم جنبا إلى جنب ، في علاقة تجاور لا في حالة صراع كما هو معتاد . أراد سلاما لم يجده في الواقع فلجأ لإشكالية الموت والحياة ، النور والظلام ؛ محاولا إيجاد نوع من التعايش بينهما . حاول إيجاد حالة تعادل موضوعي بين الأضاد تمكن الكائن البشري من الوصول لشفافية يسمو بها على الواقع المتازم دون بارقة أمل في حل قريب . ربما كانت لديه حالة لا وعي عليا أو وعي مقصود يحاول فيها تبئير فكرة قبول الآخر المختلف تماما في الكينونة .تناول فتحي سعد في كتاباته فكرة الموت الذي كان يستشرف نسائمه في جو أسطوري استمد طقوسه من الموروث الثقافي المترع بالحكايا ، ومن أقبية الأديرة التي عرف فيها روعة البهاء الروحاني ؛ بحيث لم يكن يفرق بين مولد العذراء ومولد سيدي عبد الرحيم القنائي فيما يستلهمه من صور وأفكار ينسج بها وحولها عالمه السردي ، الذي جاء ليعكس البيئة الجنوبية التي عايشها مستنشقا ميراث الأسطورة ومسترجعا طفولته على شط القناة ، وما مر به من خبرات حياتية كان علقمها أكثر من حلوها .تميز باسلوب غير مباشر في الكتابة ، مزج فيه كل تلك الخبرات الحياتية مع موروثه الثقافي في اللاوعي ليخرج لنا قصة لا تشير إلى الواقع أو الحقيقة مباشرة ؛ بل إلى عالم رمزي ميتافيزيقي لا تحكمه حدود؛ تماما مثل عالم الأحلام الشاسع . فجاء فعل الكتابة لديه كنوع من حلم طويل يمارسه بكل طقوسة الغرائبية على الورق ، محاولا اختراق حواجز العجز والفشل التي كانت تفرض نفسها على فتحي سعد الإنسان و الأديب وهو يرى الحالة المتردية للواقع الراهن بين نزاعات داخلية وعربية ، في تعليق له منشور على الإنترنت يقول :(أما كيف أعيش على المستوى العام ؟ فهذا ما يقلقنى ، يزعجنى ، يربكنى ، ويذبحنى هماً ، وكمداً ، لأننا كلنا أبناء هم واحد . أبناء خيبات تتسكع فى أوطاننا بنطاعة ، وبلادة ، فلم يبق لنا سوى الجنوح صوب الجنون ، الجنون اللذيذ ، كفعل نمارسه دونما أن يتلصص علينا عملاء أوطاننا الخونة ، الذين قايضوا ملكوت الرب ، بخيمة الذل ، ونفط العار))).في مجموعاته ( رائحة المساء)، و (صخب العتمة) ، (مرايا الرحيل) وفي باقي قصصه المتفرقة التي لم تشملها مجموعة ، عمل جاهدا على تضفير الواقع بالحلم للوصول إلى " الواقع المطلق أو المكتمل " كما أسماه أندريه بريتون.خالف فتحي سعد (فرويد ) الذي تحدث عن (سيناريو الحلم)، الذي يقوم الحالم فيه بإعادة تركيب محتويات الحلم ليخرجها على شكل قصة قريبة الى الواقع، وليس الى الحقيقة الموجودة في اللاوعي . فجاءت قصص فتحي لتفعل العكس تماما ؛ تأخذ الواقع لتجعله قريبا من الحلم وتبقى الحياة كحلم دائم قصير كما قال هو يوما :((هذا أنا ببساطة شديدة ، لا أحمل فى قلبى إلا كل الحب الأبيض للآخرين ، حتى لو ذبحت فى كــربـــلاء ، لأنى أؤمن بأن الحياة تشبه حلماً قصيراً جداً ، ماذا يا صديقى لو عشت هذا الحلم وأنا أقدم للآخرين أطواق الفل ، دونما أن أنتظر ماذا يقدمون لى . أنا أعيش حياتى على المستوى الخاص بشكل جميل ، وحميم ، ومتصالح مع نفسى ، وبالتالى مع الآخرين ، أعيش السلام الداخلى .)حالة المصالحة مع النفس ، وما قابلها من احباطات خارجية ، عززت لديه تلك الحالة من الخيال الدائم ،فلم يعد هناك حاجز بين المعقول واللامعقول، بين النوم واليقظة . وكما كان في نتاجه الأدبي ،كان حديثه العادي مترعا بالرمز .سألته يوما ، ماذا فعلت بالأمس ؟ فأجاب بكل بساطة : صافحت كل الذين أحبهم فى مخيلتى الجامحة إلى عوالم غير روتينية ثم دعوتهم لأحتساء الفودكا عند نهر الكوثر.وكما كانت حياته سلسلة من المعاناة دون أن يشكو ، دون تصريح وبوح ، جاءت قصصه هكذا لا تمنح نفسها بسهولة ، على القارئ دوما أن يستحضر معلوماته وخبراته ليفهم أولا ،ثم ليسأل ماذا أراد المؤلف من هذه القصة ، وعندما لا يجد إجابة ، يسقطها على حياته هو ، وفي النهاية يتحول القارئ إلى قارئ متفاعل ويتوارى المؤلف ، بل يموت المؤلف ليظهر القارئ الذي أراده فتحي سعد والذي أراده من قبل رولان بارت في كتابه (موت المؤلف) The death of the Author. هذا القارئ الذي يعيد كتابة النص في ذهنه وفق خارطته الذهنية الشخصية غير محكوم بسلطة الكاتب الأصلي للعمل الأدبي .الفضاء اللغوي الذي تحرك فيه فتحي سعد كان فضاء تشكيليا تصويريا ، له لون وطعم ورائحة . كان فضاء يضج بالحياة محتفيا بها أشد الإحتفاء راسما الربيع والزهور والفل والياسمين والحدائق ، وفي نفس الوقت وفي نفس الفضاء المكاني يحتفي أيضا بالموت كموجود دائم يبسط جناحيه على الوجود ، مستخدما مفردات تدل عليه مثل الصمت ، شتاء غاضب ، أحلام مشنوقة ، أو كلمة العتمة التي تتكرر كثيرا في قصصه وأحيانا مرات عديدة في قصة واحدة . كانت ليه مقدرة هائلة لخلق جمل وصفية غير معقولة مبهرة في جمعه أضاد معا ، أو في تشكيل صور غير مألوفة .ففي القصة الواحدة تجيء المفردات متناوبة المرور على حدائق الورد الصارخ بعبق الحياة تارة، وتارة أخرى تمر بحواف موت يستشعره .في قصة (قلب صغير مفتون بالفل) نجد مفردات مثل ( تابوت .موت إغفاءة. عتمة) والعديد من المفردات الأخرى التي تحيل إلى الفناء وانحباس الروح ، ثم نجد ما يوازيها من مفردات تحيل إلى الخلود والبهجة والحياة المتجددة مثل ( زهور الياسمين ، قوس قزح ، فراشات ، فروع السيسبان ، اوراق البنفسج ، القطن).وفي "بيوت ثكلى" نجد ( مساء بارد،مكفنا ، كوابيس ،العتمة ،غيوم ، اوجاع ) وفي المقابل (زقزقة العصافير ، ازهار الروح ، ازهار الليمون ، القرنفل ، الياسمين ) . وفي "شهقة" نجد (توابيت، الموتى، جثة الصمت،مساءات،حزينة ) وفي المقابل ( اضاءة ، مصابيح ، ضحكات ، بتلات )ويتكرر نفس التكنيك ، في التجاور اللغوي للأضاد ، ونفس المفردات تقريبا في قصص مثل "ذاكرة الثغاء ثكلى" و "شعاع ضوء في زقاق معتم"، و"رائحة الصمت"و "الصبار ينمو في مرايا الروح" وغيرهم .كان هذه عبور عابر على عالم فتحي سعد ، عبور ألقي فيه تحية الوداع على فتحي سعد الذي رحل عنا فجأة وهو في الأربعينيات من عمره دون أن يعطي أحدا الفرصة لوداعه أو القلق على صحته أو حتى السؤال عن أحواله . رحل سريعا ، عابرا حاجز العتمة إلى براح النور السرمدي .ربما يلتقي إيزيس فتلملمه مرة أخرى وتعيده متوجا ملكا على مملكة الفل والياسمين
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1699

Saturday, January 23, 2010

«الجنوبى» الباحث عن الحقيقة

«الجنوبى» الباحث عن الحقيقة
جاء الأصدقاء والمريدون إلى مكتبة الإسكندرية ليحتفلوا بميلاد أمل دنقل؛ هذا الجنوبى الذى وإن ارتحل فهو لم يمت، فقد عاش فينا بأشعاره، ليولد من جديد مع كل قراءة لأعماله. لم يكن هناك أبدا حفل تأبين ولا مراسم للحزن، بل طقوس احتفالية تضمنت شهادات وذكريات وموسيقى وغناء لبعض قصائده قدمتها أوركسترا مكتبة الإسكندرية؛ تماما نفس الطقوس التى تصاحب الاحتفاء بميلاد أصحاب الكرامات الذين تُشد إليهم الرحال، وتقام لهم الموالد بعد وفاتهم. الجنوبى الذى رحل منذ ما يقرب من ربع قرن بعد حياة قصيرة لم يعرف فيها احتفالا يتجاوز لحظة ميلاد قصيدة تحمل شيفرته المميزة وبصمته.تضمنت الاحتفالية عرضا للفيلم الوثائقى «حديث الغرفة رقم 8» وجاء فيه صوت وصورة الجنوبى وكأنه مازال نزيل الغرفة نفسها فى الطابق التاسع من مستشفى معهد السرطان. وعندما ظهر اسمه المنقوش على لوح من الرخام الأبيض المبلل بدموع أمه، التى ما كان يخشى الموت إلا خوفا عليها، أطل الموت ليذكرنا بأن أمل يرقد الآن تحت الأرض لا على سريره. ولكن وعلى الرغم من كآبة وقتامة أجواء المدافن، فإنه لم يكن مجرد قبر تبكى عليه أم ابنها، فقد أصبح للجنوبى أخيرا عنوان ثابت وبيت للمقام، ولم يعد بحاجة بعد الآن إلى التنقل بين (مقهى ريش)، و(أتيلييه القاهرة)، أو(دار الأدباء). عرف الجنوبى أخيراً معنى الاستقرار فى مكان يملكه ولو كان قبرا يعلوه شاهد يحمل اسمه كإثبات لملكية لن ينازعه أحد عليها مثلما فعلوا بإرثه وهو صغير بعد وفاة أبيه. هذا المرتحل الأبدى الذى تعود أن يمشى متخففا من كل متاع الدنيا، يقاسم أصدقاءه غرفاتهم وطعامهم وكتبهم. ثم يمضى لا يحمل غير قلبه المفعم بالتمرد على زخرف الحياة الزائف، تاركاً أوراقه وكتبه، وربما ملابس لم يحرص على تملكها يوما. ذلك الجنوبى المنتمى إلى الشوارع والأرصفة والطرقات، والذى جاء خبر نعيه فى أخبار اليوم لا إلى أهله وأصدقائه، بل جاء النعى بالخط العريض موجها إلى من كان ينتمى إليهم: « يا شوارع القاهرة مات أمل دنقل» . وبقدر ما كان نعيا من المفترض أنه لميت فإنه كان إثباتا علنيا لنجاح أمل دنقل فى غزوه للقاهرة الذى انتواه عند ارتحاله إليها. فعندما خرج من قنا إلى القاهرة اعتبره خروجا من القمقم، أو كأنه خروج من الظل إلى النور، بحثا عن المعرفة بعد أن ضاق بالقرية لضحالة ما توفره من التحام وتلاقح معرفى . الجنوبى الذى اختار أن يكون هو، لا ما يريده الآخرون أو ما يتوقعه الآخرون منه، هاجر الى المدينة بحثا عن المعرفة، لا يحمل غير شعر وقلب حر يأبى القيد، لا تهمه الرموز والأسماء قدر اهتمامه بمفهوم الحرية. تذكر زوجته الناقدة عبلة الروينى فى كتابها «الجنوبى» كيف أنه قرأ لها قصيدته (خطاب غير تاريخى على قبر صلاح الدين) فردت: لا أستطيع أن أعجب بقصيدة تدين عبد الناصر. فيجيبها: (إننى لا أكره عبد الناصر، ولكن فى تقديرى دائماً أن المناخ الذى يعتقل كاتباً أو مفكراً لا يصح أن أنتمى إليه أو أدافع عنه، إن قضيتى ليست عن عبد الناصر حتى لو أحببته، ولكن قضيتى دائماً هى الحرية).رأى أمل دنقل فى الأشياء العادية، والمواقف المعاشة اليومية، والأحداث الجارية مالم يره غيره، فجاء تعبيره وترجمته لها مغايرا ولافتا لأنظار الكبار من أمثال الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى الذى قال عنه: « (....وكذلك اهتم بالموضوعات التى اهتممت بها، لكنه أبدع فيها إبداعا خاصا، مثلا عندما أقرأ قصائده عن القاهرة أحسده وأتمنى لو كنت كتبت هذه القصائد، وأيضا قصائده عن الإسكندرية وخصوصا عن البحر أحسده عليها وأتمنى لو كتبت هذه القصائد، لأننى أحب البحر ولم أكتب عنه كما كتب أمل).ما زال الجنوبى يتجسد فى كلماته الباقية ما بقى صوت يدعو إلى الحرية والتحرر من كل القيود. فصوته يتردد يقتسم معنا الكعكة الحجرية، يعيد إحياء زرقاء اليمامة والخنساء وعنترة والحجاج وقطر الندى واسبارتكوس وسيزيف والإسكندر وروما وقرطاج على طريقته، يستدعى الماضى يستنسخ منه وعليه حاضرا أعياه بضعفه وتقهقره نحو عصور الجهل والظلام الفكرى . يعقد صلحا مع التراث الذى رأى البعض فيه جاهلية ورأى فيه الجنوبى الأمل فى الانطلاق بالقصيدة نحو المقاومة فى وقت لم تكن هناك أحزاب معارضة ولا أحزاب مستقلة. انطلق ليؤسس حركة مقاومة ينخرط فيها أفراد الشعب البسيط والطلبة الذين رددوا قصائده فى تجمعاتهم ووقفاتهم. الجنوبى الذى حرص على ألا يقع فى العشق الذى قد يربطه بأرض يقف عليها عزيز قد يتألم لفقده، أصبح عاشقا رغم أنفه. ولكن روح المقاومة التى سادت أشعاره ألقت بغيومها على علاقته برفيقة حياته عبلة الروينى التى كتب لها»: لو لم أكن أحبك كثيراً، لما تحمّلتُ حساسيتك لحظةً واحدة. تقولين دائماً عنى ما أدهش كثيراً عند سماعه. أحياناً أنا ماكر. وأحياناً أنا ذكى. رغم أننى لا أحتاج إلى المكر أو الذكاء فى التعامل معك، لأنّ الحبّ وسادة فى غرفة مقفلة أستريح فيها على سجيتى».لم يكن الجنوبى يخشى الموت الذى رآه دوما كحقيقة وحيدة فى الحياة . بل كان الموت فى نظره هو الحرمان من الحركة والتفاعل ، وهذا ما حدث له عندما اشتد عليه المرض وعجز عن تحريك جسده. لم يستسغ أن يمتص الحياة من أنبوب جلوكوز وهو طريح الفراش لا يقدر على الكتابة التى مثلت له الروح والوجود. وعندما عجز عن الكتابة، وأصبح جسده عبئا لا يملك السيطرة عليه، استشعر حتمية الرحيل. فكان خروجه الأخير خروجا هادئا من قمقم الحياة إلى براح الكون الذى ينتظر الباحث عن الحقيقة وأوجهها الغائبة

انتصار عبد المنعم.
مجلة أكتوبر العدد1735

Saturday, January 16, 2010

قلب «جاذبية صدقى» الذهبى


قلب «جاذبية صدقى» الذهبى
كثيرون تعرفوا على اسمها وهم مازالوا صغارا يدرسون «القلب الذهبى»، قصة الفتاة الواسعة العينين «زين» وقطها «نمر»، وكثيرون مازالوا يتذكرون الإهداء الذى صدرت به الرواية القصيرة»إلى ابنتى بهية وجيلها الوثاب الذى يهوى المعرفة وهدفه الواقع لا ترضيه سوى الحقائق يجد ويشقى ويجاهد باحثا عنها أبدا"، تلك كانت جاذبية صدقى، الأديبة والكاتبة الصحفية التى ولدت عام 1920. كتبت جاذبية الرواية والقصة بنفس الألق الذي كتبت به للأطفال رائعتيها «القلب الذهبى»، و«بين الأدغال» . ومن أعمالها الخالدة «مملكة الله»، «الحب»، «بوابة المتولى»، «ليلة بيضاء»، و«لمحات من المسرح العالمى».قامت بترجمة العديد من الأعمال الأدبية العالمية مثل «الشاره القرمزيه» لناتانييل هوثورن. اهتمت جاذبية أيضا بأدب الرحلات، تسجل رحلاتها وتمزجها بانطباعات وحكايا تتوالد مع كل مشهد وعلى كل أرض بتلقائية شديدة وبمشاعر فياضة. ففى كتابها عن رحلتها إلى أسبانيا والتى تضمنت أيضا زيارة سريعة لسويسرا وايطاليا «فى بلاد الدماء الحارة» والتى قامت بها فى الستينيات، جاءت الكلمات معبرة ومشهدية لتضع الواقع متجليا أمام القارئ الذى يجد أن الصورة تتجسد مع كل كلمة تكتبها. وكما رصدت المشاهد، رصدت سلوك البعض الذى لا يوافق البلد الذى يعيش فيه بقولها «فى نظرى خير ما يفعله المغترب أن يعيش ويتصرف في حدود آداب البلد الذى يزوره» .تصف جاذبية كاتدرائية «سان بيترو» ونسمع معها تراتيل القداس ونرى بعينها مشهد المرأة الإيطالية العاشقة تعترف بينما صوت الأرغن يضج بنغماته المدوية العالية. وهكذا لا تفوت الكاتبة مكانا يخلبها بجماله إلا ونسجت عليه قصة لتجعله فضاء حقيقيا لقصة متخيلة فتتجسد القصة كأنها سيرة لأحدهم أو احداهن. تصف «الماتادور» ومصارعة الثيران وما يتعلق بها من طقوس خاصة ، تتحدث عن كل شبر تمر عليه في اسبانيا من اشبيلية إلى غرناطة يأسرها جمال الحاضر وتستعمرها ذكريات الماضى الجميل فى الأندلس.كتبت جاذبية «أهل السيدة» منذ أكثر من خمسة عقود فى يناير من عام 1956، ومازالت «أم العواجز» كما هى تستقبل زوارها ومريديها رغم أن «جاذبية صدقى» نفسها رحلت عام 2001، ولكنها تركت خلفها «أهل السيدة» كنص أدبى يشهد على عالمها الذى كانت تتجول فيه بحرية تمزج فيه الواقعى بالمتخيل بحرفية أصيلة، فلا تلمس أى نتوء يجعلك تشعر بأن هناك أى فاصل بين الحدث الأصلى أو السرد المنسوج عليه. ولا يتبادر إلى ذهنك أبدا أن تتساءل عما إذا كانت تكتب تجربة ذاتية خالصة، أم إنها تمارس المزج بين الإثنين لتخرج علينا بمزيج جديد بديع يحمل سمات الواقع الذي يمثله «شارع السد، والحاجة بطاطة،حارة الناصرية» ومعطيات نص أدبى تضع نفسها فيه موضع الساردة البطلة. فى «أهل السيدة» يتجلى تأثر الكاتبة بالجو «الزينبى»الذى فتنها وفتن كل من جاور المقام ولو لفترة قصيرة ولا أبلغ من «قنديل أم هاشم» الذى عكس أيضا تأثر الكاتب الكبير يحيى حقى بنفس الجو وطقوسه وتأثر حياة الناس به. وعلى العموم وفى أغلب أعمال جاذبية يظهر افتتانها بالحياة البسيطة والبسطاء التي تعبر عن وجه مصر الحقيقى الذى تأسره بسمة على وجه طفل يلعب الحجلة أو عجوز يرفع أكف الضراعة والدعاء. حتى فى أعمالها الأدبية للأطفال «ابن النيل، والقلب الذهبى» تناولت نماذج واقعية لبشر بسطاء شكل النيل محورا مهما فى حياتهم مثلا الفتى حمدان فى «ابن النيل» والفتاة زين فى «القلب الذهبى». وجعلت النيل يلعب دورا حيويا في حياة الأبطال لترسخ قيمة الهوية المتأصلة كما النيل. وكما تقول الدكتورة أميمة جادو عن صورة النيل عند جاذبية صدقي وكما تمثل فى «ابن النيل» استطاعت الكاتبة أن توظف نهر النيل ومفرداته عبر الحكى لترسيخ مجموعة من القيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والوجدانية بشكل رائع صراحة أحيانا أو ضمنيا أحيانا".وتقول أيضا عن الرواية «إنها رواية الزمن الجميل إن جاز التعبير، زمن العذوبة والفيض والكرم والسماحة والخصوبة والجمال والحب وكلها مستمدة من نهر النيل". قال عنها الأستاذ أنيس منصور «تألقت الأديبة جاذبية صدقى ـ بنت الباشا ـ طويلا وكثيرا‏..‏ ثم توارت‏..‏ اختفت‏..‏ تلاشت طويلا‏،‏ فكأنها ماتت قبل أن تموت بالأمس‏.‏وجاذبية صدقى تنتمى إلى مدرسة التحليل النفسى ـ إن كانت هناك مدرسة بهذا الاسم،,‏ فإن لم يكن فهى ناظرة المدرسة والتلميذة الوحيدة‏..‏ فكل قصصها القصيرة والطويلة كانت رحلات شقاء وعذاب فى حوارى النفس وسراديب الخصوصية‏..‏ وكانت قاسية عنيفة علي أبطالها مثل قسوة الدنيا عليها‏..‏ فهى تجلدهم حتى يعترفوا‏..‏ وكانوا يعترفون‏..‏ ويقولون أكثر مما طلبت منهم،‏ ولكنها لم ترحم منهم أحدا ولانفسها».كتبت جاذبية عن المشاعر الجميلة والقيم والحياة الرائقة البسيطة يستهويها بائع فجل بسيط، غجرية عاشقة، لوحة فنان، بسمة على شفاه طفلة. كتبت بغزارة وعاشت طويلا تقاوم النسيان والتجاهل والتهميش، ولعلها الآن تطل علينا لتدرك أن هناك من جيل بهية الوثاب من يذكرها، ومازال يجاهد من أجل المعرفة التى تبنى فكرا نيرا، ويبحث عن الحقائق التي تقود إلى المستقبل الذى كانت تأمله لكل جيل بهية. ولربما يتذكرها المهتمون بالشأن الثقافى الحقيقى فيكرمون اسمها بعد أن رحلت تاركة لنا إرثا ثقافيا متنوعا جديرا بالاهتمام والرعاية
انتصار عبد المنعم
مجة أكتوبر 1734

Saturday, January 09, 2010

الكتابة للطفل وعنه

الكتابة للطفل وعنه
لا يدرك الكثيرون قيمة الكتابة الموجهة إلى الطفل، والتى تـُعتبر فى حد ذاتها معجزة كبرى. فالكاتب عليه أن يتلبس عقل الطفل ونفسيته فى المرحلة العمرية المستهدفة، وعليه كذلك أن يحدد الكيفية التى تعينه على تمرير ما يريد من خلال الكتابة بعيدا عن التلقين والحشو وهذا خطأ وهذا صواب. كانت السيدة سوزان مبارك أول من ألقى الضوء على أهمية الكتابة للطفل، وعلى أهمية الاهتمام بعقله وتثقيفه، تماما مثلما نهتم ببدنه وتحصينه ضد الأمراض. وجاءت مسابقة سوزان مبارك السنوية لأدب الطفل لنكتشف من خلالها أن هناك من يجيدون الكتابة للطفل فى مختلف محافظات مصر. ثم تسابقت حتى دور النشر الخاصة لكى تنوع اصداراتها لتشمل كتب الأطفال الزاهية الألوان والجيدة الطباعة أملا فى الحصول على الجائزة هى الأخرى، لأن هذا الفوز صار بمثابة إعلان للشرعية والمصداقية للكاتب والرسام و دار النشر على حد سواء. وكان من المفترض بعدها أن تتكاتف جهود الأفراد والمؤسسات الأهلية والجمعيات المدنية فى نفس المجال من أجل الطفل. ففى كل دول العالم تتجاور الجهود الحكومية مع جهود المؤسسات المدنية، ولكننا للأسف نفتقر إلى ثقافة المشاركة، نتوقع دوما أن الدولة عليها أن تجر وحدها القاطرة فى كل الاتجاهات، نعتمد اعتمادا كليا على أن الحكومة ستفعل كل شئ. وعندما يحدث تقصير فى مجال من المجالات ترتفع الأصوات تنادى وتنتقد وتطالب بالحقوق الضائعة. ولذلك من البديهى أن تأتى المحصلة النهائية منقوصة لا ترضى كل الأطراف لأن عنصر أو مفهوم المشاركة المجتمعية ضائع من ثقافتنا. وفى محاولة لزرع فكرة المشاركة المجتمعية كجزء من مفهوم المواطنة والانتماء جاءت فكرة عقد ورشة لكتاب الطفل ليبحثوا فيها عن الكيفية التى من خلالها يكون لهم دور فى زرع فكرة الانتماء والمواطنة لدى الطفل، وأنه لكى تطالب بحقوقك لابد أن تعرف أن لك واجبات عليك القيام بها أولا، وكل هذا من مبادئ الليبرالية. وهذه الفكرة لابد أن يتم غرسها منذ الصغر فى المنزل، والمدرسة، وأن تتكاتف كل الجهود، ومعها الأقلام التى تكتب للطفل وليس عن الطفل من أجل تقديم كل القيم بسهولة ونعومة بعيدا عن الوعظ الذى يصيب الطفل بالسأم. فمن المعروف أن هناك قيما أساسية تتشارك فيها كل الأديان مثل الصدق والحق والجمال وغيرها، وكان السؤال هو كيف ننزل بهذه المسميات الضخمة إلى مستوى الطفل وكيف يكتسبونها عن اقتناع وحب؟ أدرك الجميع أهمية التحاور من أجل الطفل الذى يجب أن نترك له فرصة التفكير والاختيار والابداع وكل هذا ممارسة فعلية لمفهوم الليبرالية التى يسئ البعض فهمه حتى من الكبار لا من الصغار فقط. وكان من الجميل فعلا أن تأتى مبادرة من خارج العاصمة لفتح باب النقاش فى أدب الطفل وكيف أنه وسيلة لتدريب الطفل من خلال كل أشكال الكتابة على أن يمارس حرية الفكر والاختيار، وأن يتعرف على القيم الأساسية، وأن يشعر أن من أول خطوات الليبرالية أن يشعر بواجباته والتى تصاحبها مجموعة من الحقوق عليه أن يعرفها أيضا. ففى نادى أدب بيت ثقافة سنورس التابع للهيئة العامة لقصور الثقافة وبالتعاون مع مؤسسة فريدريش ناومان، أقيمت وعلى مدار ثلاثة أيام ورشة عمل، اجتمع فيها مجموعة من كتاب الطفل الذين سبق لهم الفوز بجائزة سوزان مبارك، وبالعديد من الجوائز العربية مثل عبده الزراع مدير تحرير مجلة قطر الندى، والدكتور محمد سيد عبد التواب، وأحمد طوسون، أحمد قرنى، أحمد الأبلج، سمر ابراهيم، هدى توفيق، محمد عاشور، عماد عبد الحكيم، خالد سعيد، ناصر محلاوى وبمشاركة الفنان عهدى شاكر. ولكن البديع فى الأمر أن تنخرط مجموعة من الأطفال فى فعاليات الورشة بالتعبير عن آرائهم، وعرض مواهبهم، وفى وضع أفكار بديلة لنهايات نصوص مكتوبة كوسيلة لحثهم على أن تكون لديهم حرية التعبير دون خجل أو خوف، وبتلقائية، وألا يخشوا التجربة، أو المغايرة لرأى المجموع. كان الهدف هو أن يتعلم الطفل أن يتقبل الشىء عن حب واقتناع وهذا من أول الحقوق التى يجب أن يتمتع بها، مع مراعاة حقوق من حوله فى إبداء رأى مخالف لرأيه كما يطالب هو بأن يكون له الحق نفسه. لم تخش أسماء عبد الوهاب من مدرسة دكتور لطفى سليمان أو مى عماد الدين من مدرسة القديس ميخائيل، من أن يعبرا عن رأيهما فى أن تكون لديهما حرية اختيار الملابس، واختيار المواد الدراسية، وأن تكون لهما نفس الحقوق دون تمييز مع الذكور فى نفس مراحلهم العمرية. تماست الورشة مع اشكالية الليبرالية وحقوق الطفل وكيف انعكست فى الكتابات الموجهة للطفل، وهل هناك تمييز سواء فى الجنس أو الدين أو اللون فى انتقاء شخصيات وأحداث السرد الأدبى. وجاءت أعمال كبار كتاب الطفل مثل كامل كيلانى ويعقوب الشارونى وعبد التواب يوسف وفاطمة المعدول ضمن السياق البحثى للورشة كدليل صادق واقعى على أهمية دور أدب الأطفال فى غرس كل القيم، وأن دور كاتب الطفل لا يقل أهمية عن دور الأم والأب فى البيت، والمعلم فى المدرسة، ورجل الدين فى المسجد والكنيسة. وفى نهاية الورشة اتفق الجميع على أن حل الكثير من مشكلاتنا تكمن فى زرع فكرة المواطنة والانتماء فى عقل الطفل من أجل الحفاظ على هويته المستقلة، والتى قد تضيع عندما يجد أمامه هذا العالم المفتوح من خلال التليفزيون والنت ويجد أن كل الخيارات متاحه أمامه فى العالم الافتراضى، ثم يفاجأ أن هناك فرصا قليلة جدا للتعبير عن رأيه سواء فى البيت أوالمدرسة
انتصار عبد المنعم.
مجلة أكتوبر العدد1733

Friday, January 08, 2010

عندما يكون المكان بطلا !! في مجموعة طالب الرفاعي/شمس/"»


تحتفي المجموعة القصصية (شمس) للقاص والروائي الكويتي طالب الرفاعي بالمكان وتجعله بطلا تحوم حوله وعنه حكايا لأبطال يتحركون في حيز مكاني محلي ، ويظهر هذا الحيز كمحاولة للهروب من الواقع المتحول الذي يستنكره الرفاعي ، وأحيانا أخرى كتعبيرعن تلك العلاقة الجدلية بين ما كان وماهو كائن قبل وبعد طفرة ارتفاع أسعار النفط . لجأ الرفاعي إلى تقديم البيئة الكويتية ، وركز على الأماكن التي يستحضر بها الذكريات ، وجعل مسرح الأحداث التي تظهر عليه تلك الذكريات محدودا ، لا يتعدى كثيرا حيز المدينة ، الحي ، الشارع ، المنزل ، الغرفة ، الخيمة ، المكتبة ، جميعها تمثل حدود العالم الحسي الذي تعيشه الشخصية كواقع آني ، ثم يضيف عليه الصبغة المحلية الكويتية ، مثلما فعل نجيب محفوظ في اختياره للأماكن التي تناسب شخصياته التي تفوح منها نكهة الحارة المصرية .ومثلما إهتم طالب الرفاعي بالمكان في رواياته( رائحة البحر، ظل الشمس وسمر كلمات ) وجعل أحداثها تنتقل بين شوارع الكويت وحاراتها ومطاعمها، محتفيا بالبحر بشكل خاص ، نجد أنه في (شمس) جعل من الشويخ ، قصر السلام ، شارع الخليج العربي ، والأبراج الثلاثة التي تقف في مواجهة البحر ، ومطعم ميس الغانم أماكن يستخدمها ليستحضر الذكريات ، ثم ينسج عليها قصصه التي ترصد العلاقات الاجتماعية المتشظية ، وميكنة حياة البشر .أنسنة الأماكن والأشياء سمة يرتكز عليها الرفاعي في اسلوب إسقاطي، ليأتي نقد الواقع من هذا الفضاء المكاني المحيط بالإنسان ذاته ، فيتحول المكان من مجرد مساحة جغرافية ساكنة إلى كائن حي ، بل إلى شخصية محورية تشعر وتتفاعل مع الواقع ومع باقي شخوص القصة . في (ليال) تتحول أبراج الكويت الشهيرة التي صممها المهندسان الدنماركيان سون ليندسورم وميلن بجورن على شكل مرش العطر التراثي الكويتي ،إلى عائلة مكونة من البرج الأصغر كإبن ، والبرج الأكبر كرب الأسرة لأهميته ، بما يحويه من مطعم دوار أو الكرة الكاشفة التي تكشف الكويت لزوارها ، والبرج الأوسط الذي يمثل الأم الحبلى بما يحمله من خزان للمياه في أوسطه والتي تمثل الجانب المحافظ في المجتمع . البرج الاصغر يترك مكانه ليتجول بمفرده يرصد ما طرأ على المجتمع من ظواهر حديثة من استقدام للأيدي العاملة الأسيوية ، وفساد إداري ، وادمان بعض الشباب للمخدرات ، وتغير المنظور القيمي وظهور دور المسنين كحل لعقوق الأبناء، البرج الأصغر تتلبسه مشاعر الحزن فيعود لمكانه محاصرا خلف أسيجة تمنع فراره مرة أخرى . وفي ( الواجهة) يبدو البحر كمكان وصديق ( عجوز حزين ذو رأس شائب وصدر عار ومئزر مبلل يستر نصفه الأسفل) يتحدث مع ناصر الشخصية البشرية ، يشكو البحر ، يعتب على أهل الكويت نسيانهم له وانشغالهم بالنفط والدينار، «هجرني أهل الديرة. أداروا وجوههم عني، خطفهم النفط الأسود، وألهاهم الدينار!» البحر يبكي أيام الصيد ، وعودة الصيادين ، ورائحة الحناء التي تفوح من أجساد النساء المتلهفة لعناق القادمين ، يشكو البحرغابات الخرسانة التي غزت الشاطئ وأخفت وجهه الذي ما عاد باسما كما كان. ويظهر (المحل ) كمكان يلفه صوت مكيف رتيب ، ومانيكان مصقول بملابس عارية ، يفتح آفاقا من الأخيلة الليلية ( مانيكان) ، ويصبح المكان هلاميا لا يفرق بين العالم وواجهة المحل الذي تغادره المانيكان لتتجول بين البشر ، في إشارة ربما لتحول البشر إلى أقنعة ، أو إلى أن الحياة ذاتها تحولت إلى واجهة محل ، تعتمد العلاقات فيها على شاشة وجهاز تحكم عن بعد للتواصل مع الجميع (شاشة) .ويظهر المكان كتميمة يتطهر بها وعندها عثمان الذي تكالبت عليه أمراض الحضارة الحديثة فانهكته جسدا وروحا ، ولم يكن هذا المكان غير البحر رمز التطهر والخلاص ، على شاطئ البحر جاء الاطباء يجرون لعثمان عملية التطهير (علي السيف) ، ويتناهى إلى سمعه هدير الموج مختلطا بصوت البحارة يؤدون (الخطفة) ، والطبيب يستأصل مابدا له من جسد عثمان ، وبالخلفية يتردد صوت المطرب الشعبي عوض دوخي مبتهلا (يالله يا لله يا لله سيدي الكريم ...هولو سيدي) ويقرر (الرفاعي) أن الأحبال الصوتية لا داعي لها مشيرا إلى تقلص مساحة الحرية التي من الممكن أن يتحرك فيها (عثمان) دون أن يصاب بالأذى من أي جهة معنية (لا داعي للكلام هكذا أسلم) ، ويحذف الرفاعي المسافة بين الواقعي والمتخيّل ، فنرى ونسمع تهاويم لا تفرق بين طبيعة المكان الآني ، وما كان عليه سابقا ، ليجعل الواقع متخيّلاً ، والمتخيّل ملموسا في تداخل للزمن والمكان.وتظهر الخيمة كمكان يجمع كل أضاد الحياة ، نقابل فيها الراوي التقليدي للحكايا ، ولكنه في جو من الفانتازيا يستخدم كل معطيات الحضارة من ستالايت وهواتف محمولة ، تحيلنا إلى المنظومة المستحدثة التي إقترن فيها رأس المال بوسائل الإعلام.وربما يكون المكان غرفة ( ليلة باردة) (ليلة أخرى) ، ولكن تلك المساحة المكانية المحدودة حوت بين جنباتها صور لأحداث تفوق هذا الحيز ، مثلما كان في غرفة (فنجان شاي) لنجيب محفوظ ، حيث رأى الرجل القابع على السرير كل أحداث الدنيا تدور في غرفته أمام عينيه. اهتم الرفاعي أيضا بالغربة المكانية وغربة الآخر (تحت الشمس) ، غربة تلفح عمر أبو اسماعيل ليتضور كدا وألما من مغترب مثله ، يتصيد فرصة لطرده من العمل ، ولا يجد أبو اسماعيل غير الموت كمكان افتراضي يتخلص فيه من من حصار رئيسه في العمل .وغربة زياد التي يمتطي فيها ساقية العمل التي لا تترك له فرصة ليجتمع بزوجته (ليلة أخرى) ، وتمضي الليلة تلو الاخرى ، وزياد مابين حاجته لأحضان هناء في نهاية يوم من أيام صراعه مع الحياة ، واستيقاظه في اليوم التالي على صوت المنبه دون أن يتحابا ، ليأخذ دوره مجددا في الحياة التي لا تكف عن دورانها ليوفر احتياجات أسرته التي تغرب من أجل تأمينها .وقد يكون المكان مجرد لوحة فنية تسكنها سمكة سوداء تمل حياة الرتابة فتغادرها ، ترفض الحياة الميكانيكية التي غرق فيها الإنسان الذي نسي بشريته ، ليعتبر يوم عطلته يوم عذاب لا يوم راحة واسترخاء (سمكة سوداء) ، وانحصرت المتعة فيها في سيجارة وعري كامل يمارسه بين جدران شقته كنوع من التغيير والحرية .إصرار الرفاعي على أن يكون البطل هو المكان المتمثل في الكويت ببحرها وحاراتها وشوارعها ، يعطينا انطباعا بأنه يؤسس لنفسه مكانا بجوار ماركيز ، ومحفوظ ، وعبدالرحمن منيف ، وديكنز ، وأمين صالح ، في تركيزهم على محلية الفضاء المكاني الذي تتجول فيه شخوصهم الروائية والقصصية ، وحرصهم على تأصيل بيئتهم المحلية لتكون انطلاقة نحو العالمية ، ولذلك كان من الطبيعي أن نعيش محلية الفضاء المكاني الذي يتحرك فيه طالب الرفاعي ونتنفس معه رائحة البحر
انتصار عبد المنعم
مجـلة نـــزوى العمــــانيـــة العـــدد59

Sunday, January 03, 2010

الإسكندرية تتنفس شعرا


على مدار أربعة أيام احتضنت الإسكندرية مؤتمر أدباء مصر فى دورته الرابعة والعشرين ، والذى جاء تحت شعار « المشهد الشعرى الراهن»، ليتوافد المثقفون من كل محافظات مصر إلى مدينة الثغر تصحبهم أحلام وطموحات فى أن يكون تجمعهم السنوى برلمانا يعبر عن حال الثقافة والمثقف. رفع الجميع هذا العام شعار «هذا وقت الشعر» هذا الشعار الذى دشنه أمين عام المؤتمر الشاعر فتحى عبد السميع فى يوم الافتتاح حين قال «هذا وقت الشعر»، فالشعر ليس رفاهية، وليس استرخاء، وليس تسلية، الشعر ضرورة، ويقظة، وبناء داخلى متين ومهيب، ليس غيابا عن الواقع بل هو الحضور الأعمق فى قلب العالم وفى طرح الشعر على بساط البحث طرحا عميقا لكل قضايانا ومشكلاتنا».ولذلك لم يكن مستغربا أن يحرص رموز الفكر والثقافة على التواجد والمشاركة الفعلية فى فعاليات المؤتمر من جلسات وأمسيات، بل فى حوارات مفتوحة مع المبدعين. وقد شهد أول أيام المؤتمر حوارا مفتوحا مع وزير الثقافة الفنان فاروق حسنى الذى أجاب فيه عن كل الأسئلة دون انتقاء أو إعداد مسبق فى خطوة طالما نادى بها المثقفون فى أن تتقلص المسافة بين المبدع والسلطة الرسمية. فالابداع وإن كان سلطة للعقل والفكر، إلا أنه يقع تحت أسر السلطة الرسمية التى بيدها دوما إما أن تُـُحجم شكل الإبداع نفسه وإما أن تمنعه تماما. ومما قاله الوزير مطمئنا به جموع الحاضرين إن بابه مفتوح «وإن وزير الثقافة هو ممثل الأدباء والمبدعين فى الحكومة، وليس مجرد ممثل للحكومة بينهم». وقد أكد الوزير على رفضه لقطع العلاقات بين مصر والجزائر خصوصا فى الثقافة ، أو أن يكون هناك أى شكل من أشكال القطيعة بين الشعبين العربيين. وهذا نفسه ما أكد عليه المؤتمر فى توصياته والتى أشارت إلى عمق وأهمية العلاقات التاريخية بين مصر والجزائر، وأنها تسمو فوق أى أحداث وتصرفات غير مسئولة، وأن أدباء مصر المشاركين فى المؤتمر يدينون ما بدر بسبب مباراة كرة قدم، ويؤكدون أن ما خلّفته تلك المباراة مجرد قشور سطحية لن تنال من عمق الصلات بين الشعبين .وقد أثار أدباء مصر مع الوزير قضية حرية الإبداع دون رقابة من أية جهة سلطوية أو دينية، وأن الابداع والثقافة لهما معاييرهما الخاصة والتى لا ينبغى أن تخضع للفحص من أية جهة خارج منظومة الثقافة والابداع. وفى مشهد آخر يمثل انفراجة نحو سيادة رموز الفكر، وأن المثقف الحقيقى ستكون له مكانته المميزة وما تستوجبه من احترام وتبجيل وتكريم ، بل يبشر أيضا بأن هناك أياما قادمة ستشهد ذوبان الجليد المتراكم على أعتاب رؤساء الهيئات وذوى المراكز الحكومية التى تمنع الوصول إليهم، هذا المشهد الذى وددت أن أوثقه بصورة فوتوغرافية لولا أنى احترمت موقف الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة؛ وهو ممثل الحكومة والسلطة فى الجلسة الختامية للمؤتمر، حين جلس على الأرض، وعلى درجة من درجات السلم ليتحدث إلى الدكتور عبد المنعم تلّيمة رافضا أن يجلس بجواره ليبدو المشهد وكأنه مجرد طالب علم يجلس بين يدى أستاذه، على مشهد ومرأى من جميع الحضور الذين توافدوا لحضور الجلسة الختامية التى تضمنت لقاء مفتوحا مع الدكتور أحمد مجاهد وقراءة لتوصيات المؤتمر، والتى كان من أبرزها التأكيد على الموقف الثابت لمثقفى وأدباء مصر برفض كل أشكال التطبيع والتعامل مع العدو الصهيونى. تضمنت اصدارات المؤتمر أربعة كتب، الشهادات وأوراق عمل المائدة المستديرة، وأبحاث المؤتمر، واليوبيل الفضى مراجعة واستشراف، والمكرمون، بالاضافة إلى الكتاب الموسوعى «ثورة الشعر الحديث» للدكتور عبد الغفار مكاوى. كل هذه الكتب جرى العرف على أن يحصل عليها الأدباء فى حقائب تحمل شعار المؤتمر فى أول يوم لانعقاد المؤتمر. ولكن هذه الكتب وعلى الرغم من قيمتها الفكرية والأدبية، وعلى الرغم من كم المجهود الذى بذلته الأقلام المميزة فى اعدادها لجعلها فى متناول الحضور، فإنها تبقى فى الحقائب حتى انتهاء المؤتمر، ليطلع عليها الأدباء حين عودتهم إلى مدنهم وقراهم التى أتوا منها. وأعتقد أنه من الأفضل أن يتم توزيع هذه الإصدارات على المشاركين فى المؤتمر قبل انعقاده بفترة كافية، حتى تكون هناك فرصة لقراءة قبلية، ولو على سبيل الاستكشاف للأبحاث والدراسات كى يتحول المثقف المشارك فى المؤتمر من مستمع سلبى يكتفى بالانصات، أو الاستمتاع بالاقامة الفندقية والتجوال فى المدينة المستضيفة، إلى مشارك فعلى لديه خلفية عن موضوع النقاش أو البحث، وأيضا لربما أضاف بعض النقاط او الملاحظات على الموضوع الأصلى، فالمؤتمر لا يخص أعضاء الموائد المستديرة فقط ولا الجلسات البحثية المصاحبة، وإلا فلماذا حضر غيرهم المؤتمر؟. بقى شىء عبر عنه الدكتور أحمد مجاهد فى الجلسة التى كان من المفترض أن يحضرها أعضاء أمانة المؤتمر لبحث سبل وكيفية تطوير المؤتمر ولكنه فوجئ بحضور عضو واحد فقط ، فى الوقت الذى حرص كبار الأدباء والمثقفين على حضوره مثل الأساتذة حلمى سالم، وجميل عبد الرحمن، وقاسم مسعد عليوة وغيرهم حيث قال متسائلا «هل نحن حقا نسعى لتطوير المؤتمر؟ ومن سيفعل ذلك إذا كان المسئولون عن ذلك والمطالبون به لم يهتموا بحضور الجلسة التى تناقش التطوير والتى طالبوا هم بانعقادها؟».كلمة حق أخيرة، كانت هناك فرص للتعبير عن الرؤى والآراء، ولكن للأسف لم يستثمرها الأدباء كما يجب، واكتفوا بالحديث الجانبى عن الخدمة الفندقية وأمور أخرى هامشية، ونسوا أن المشهد الشعرى الراهن هو مجرد جزء من مشهد عام من وضع أيديهم هم أنفسهم
مجلة أكتوبر العدد1731.