Monday, March 10, 2014

«جامعــة المشير»... مصر بعد مئة عام ..بقلم د. عمار علي حسن

رواية  (جامعة المشير) ... مصر بعد مئة عام

ما إن تبدأ في قراءة السطور الأولى لرواية الكاتبة المصرية انتصار عبدالمنعم التي أعطتها عنوان «جامعة المشير.. مئة عام من الفوضى» حتى تصطدم بنبوءة كابوسية تعاند حركة التاريخ، وآمال الناس، وأحلام الثوار، وأماني من ضحوا بأرواحهم في ساحات الاحتجاج، وتتساوق مع ما ينشر عن مؤامرة غربية لتقسيم مصر إلى ثلاث دويلات، بلاد النوبة في الجنوب، وأخرى للمسيحيين أسمتها المؤلفة «قبطستان»، ودويلة ثالثة، وهنا تكون الفجيعة الكبرى، تندمج فيها مصر وإسرائيل، فتحل «نجمة داود» محل النسر في علم مصر الحالي بألوانه الثلاثة، لتصير هي راية تلك الدويلة المتخيلة.


 هناك نوعان من النبوءات، نبوءة محققة لذاتها، حيث يحدث بالفعل ما تنطوي عليه من توقعات، ونبوءة هادمة لذاتها، وهي تلك التي تحمل تحذيراً من أمور معينة، فيؤخذ التحذير على محمل الجد، لتوضع الخطط وتصاغ السياسات التي تعمل على تفاديها. وقد لعب الأدب دوراً مهماً في طرح النبوءتين على السواء، وهناك العديد من الأعمال الأدبية، العربية والأجنبية، التي تبرهن على وظيفة الأدب في إثراء الخيال الاجتماعي والسياسي، من أمثال روايتي الأديب الفرنسي رابليه: «جورجونتوا» و«بانتاجيوريل» ورواية الأديب البريطاني جوناثان سويفت «رحلات جاليفر»، ورواية ألدوس هكسلي «عالم جديد شجاع»، ورواية هـ. ج. ولز «شكل الأشياء في المستقبل»، ورواية جورج أورويل «1984» ورواية نجيب محفوظ «رحلة ابن فطومة» ورواية جمال الغيطاني القصيرة «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، ومسرحيتي شكسبير «الليلة الثانية عشر»، و«حلم ليلة صيف»، ومسرحية توفيق الحكيم «رحلة إلى الغد»، ومسرحيات يوسف إدريس «الفرافير» و«الجنس الثالث» و«المهزلة الأرضية».

وأحسب أن رواية انتصار، تتقاطع أحياناً مع رواية أورويل «1984» التي تنبأ فيها بسيطرة قوة كبيرة على العالم تتقاسم مساحته، وتحول البشر إلى مجرد أرقام في «جمهورية الأخ الأكبر» الشمولية، التي تعد عليهم أنفاسهم عبر التحكم الإلكتروني، بعد أن تتحول القيم الإنسانية النبيلة إلى أمور تافهة، وتصبح الحياة خالية من العواطف والأحلام، ويتصرف البشر كأنهم آلات صماء. ولكن «جامعة المشير» تبدو من «النبوءات الهازمة لذاتها» وإلا عُدت تعبيراً عميقاً عن قنوط شديد حيال مستقبل الثورة والدولة معاً، ولاسيما أن الكاتبة انتهت من تأليفها في أكتوبر 2012، حين كان «الإخوان» قد قبضوا على زمام السلطة في مصر، وحولوا الثورة، التي خانوها، إلى مجرد أداة لتحقيق مشروعهم الخاص، بعيداً عما طالب به الشعب المصري وكافح من أجله.

يقوم معمار الرواية على عمودين، كل منهما يحمل لحظة زمنية في مقابل أخرى، الأولى وقت انطلاق ثورة يناير وأيام موجتها الأولى، وما حفلت به من تصرفات وتضحيات وشعارات وهتافات وشخصيات برزت على السطح، والثانية بعد مئة عام من الآن، يتوالى على حكم مصر فيها خمسة من جنرالات الجيش بعد زمن من حكم «الإخوان»، حيث تتبدل الأحوال تماماً، ويختفي الكتاب الورقي ويحل مكانه الإلكتروني، وتتحول «محطة الرمل» الشهيرة بالإسكندرية، حيث تدور أحداث الرواية، إلى «بلازا المعبد المقدس»، وتنتهي «جماعة الإخوان» إلى أن تكون «شبيبة مواطني الكابلاه»، وتصبح ساحة مسجد «القائد إبراهيم» أحد أماكن انطلاق الثورة المصرية مهملة، ويختفي الترام بعد أن تغطي شبكة المترو كل أنحاء الجمهورية الجديدة، وتختفي أقسام الشرطة لأن الخلايا الإلكترونية تراقب كل ما يجري عبر شاشات متطورة، وتمنع السلطة المواطنين من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«تويتر»، ولا يعد الناس يعرفون كلمات من قبيل «ثورة» و«مظاهرة» و«حرية»، بعد أن تتحكم السلطة في كل شيء عبر إمكانات إلكترونية فائقة تعرف حتى ما يفكر فيه الناس وما يأملونه، وكل من يخالف التعليمات يذاب في الحامض. وفي المقابل تتكفل الدولة بتوفير احتياجات الناس، وتحدد لكل واحد منهم دوره الاجتماعي بصرامة، بعد أن يمر بدورة تنشئة في طفولته، تؤهله لوضع اجتماعي يقسم المواطنين.
ويصل بين هذين الزمنين جسران، ابتكرتهما الكاتبة، كحيلة فنية تجعل المستقبل المتخيل يعانق الواقع المعيش بلا عنت ولا عناء، الأول يتمثل في رسائل كتبتها سيدة إلى ابنها الذي تاه منها لحظة انطلاق الثورة، وظلت تلك الرسائل مخبأة إلى أن وجدها شاب بعد مئة سنة، هو طالب في «جامعة المشير» فيطلع عليها زملاءه سراً، فيعرفون كل شيء عن الثورة.

 والثاني هو أن هؤلاء الطلاب يحملون أسماء ثوار زماننا هذا وكذلك أبرز مفكريه وعلمائه، فنجد منهم «شهدي عطية» و«نجيب سرور» و«جمال حمدان» و«عماد عفت» وأحمد بسيوني و«مصطفى مشرفة» و«سميرة موسى» و«أم كلثوم»، وكل منهم يؤدي الدور نفسه الذي كان يؤديه شبيهه في زماننا. وكأن مصر في هذا المستقبل البعيد نسبياً تستعيد نفسها وتستعد لعمل آخر كبير وتاريخي وملحمي، وهو ما يحدث بالفعل حين تنتهي الرواية بثورة جائحة، تحرر الوطن من الاحتلال، رافعة شعارات ثورة يناير نفسها «حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية».

وتدخل المؤلفة، لتكون إحدى شخصيات الرواية، مرة بطريقة متوارية حين تسرد ما عاشته بنفسها أيام الثورة الأولى ومع جهاز أمن الدولة الذي استدعاها ليعرف تفاصيل أخرى عن كتاب «حكايتي مع الإخوان» الذي سردت فيه تجربتها مع هذه الجماعة التي كانت تنتمي إليها ثم خرجت منها قبل الثورة، ومرة بطريقة مباشرة حين يظهر اسم «انتصار» كإحدى شخصيات الرواية، وصديقة طلاب جامعة المشير، بعد تمهيد وتبرير يقول نصاً: «من قال بنظرية موت المؤلف؟ نعم إنه رولان بارت، وطالما حكم الرجل علي بالموت بعد أن أنتهي من كتابتي لهذه الرواية فقد قررت أن أمارس ديكتاتورية مطلقة، وأتدخل مرة أخرى في السرد، قبل أن ينتهي، وأفقد معه حياتي».

لقد حاولت انتصار عبدالمنعم في روايتها تلك، وهي الثانية لها بعد «لم تذكرهم نشرة الأخبار» إلى جانب مجموعتين قصصيتين هما «نوبة رجوع» و«عندما تستيقظ الأنثى»، أن تتجاوز تفاصيل «الآني» في الثورة المصرية بتوقع «الآتي» لكن ربما جنح بها الخيال ليجعلها تعاند تقدم التاريخ، وتقع في أحابيل التشاؤم الذي عبر عنه أمل دنقل ذات يوم قائلاً: «لا تحلموا بعالم سعيد/ فخلف كل قيصر يموت/ قيصر جديد»، فمن عباءة هذا البيت، وأحداث الثورة المشبعة بالتفاصيل وخيال أورويل وتجربة المؤلفة الذاتية وقدرتها على التخييل، جاءت هذه الرواية، التي ستنضم إلى مصاف أدب الثورة المصرية الذي يتوالى بلا انقطاع، شعراً ونثراً.

 http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=77571