/مجلة الدوحة/أسامة الزيني
بلغة منتمية إلى عالم الأسطورة، وببناء أقرب إلى كتابة الأساطير
نجحت انتصار عبد المنعم في أن تكتب أسطورتها الخاصة وأسطورة وطنها وأسطورة مدينتها الإسكندرية، باختيارها مستويين للسرد داخل روايتها «جامعة المشير؛ مئة عام من الفوضى» (الهيئة المصرية العامة للكتاب). كلاهما خارج الزمن الراهن، الذي أصبح اعتبارياً داخل العمل- زمناً مستدعى على طريقة الـ (FLASH BACK) تطالعه أبطال القصة الفنتازية التي يفترض أن الأحداث الآنية تدور في زمنها المتخيَّل بعد مئة عام.
يدور الشطر الثاني من وقائع (جامعة المشير) القصة في زمن افتراضي بعد مئة عام من الآن. ويبدأ سيناريو الأسئلة الضاربة في عمق القلق العام على مستقبل مصر الدولة التي تتطلَّع إلى واقع مغاير لواقع ما قبل الثورة، وكأن انتصار تسأل من وراء ستار: هل بعد 100 عام من هذه الثورة سنكون وطناً آخر قوياً بوسعه حماية عقوله المبدعة من الاغتيالات الغامضة على أيدي أجهزة الاستخبارات الأجنبية؟ ثم تجيب الإجابة الصادمة: «لا»؛ لأن مصيرهم جميعاً هم وبقية الأبطال كان الإلقاء بهم في (الحامض) وسيلة الإعدام الجديدة في دولة (مصر الشمالية) إحدى ثلاث دويلات يفترض أن تُقَسَّم مصر إليها، وفق مخيلة الراوية، (مصر الشمالية)، و(قبطستان)، و(مملكة النوبة)، في رؤية بالغة السوداوية لمآل مشهد الفوضى العارم الذي تعيشه مصر ما بعد الثورة.
تدور الرواية بين زمنين، ليس بينهما الزمن الذي نعيشه الآن على الإطلاق، فالرسائل التي تركتها أم الجدة (حنا/حنان) ووقعت عليها يدا حفيدها (مينا/عادل) كلها تحكي مشاهد الثورة، يوم 25 يناير، فيما تدور أحداث القصة في زمن قراءة الرسائل التي يتناقلها الأبطال خلسة في دولة جديدة تنشأ على مدار مئة عام، مصير كل من يعارض
حكامها الجدد الإعدام رمياً في الحامض المركَّز.
يفتح التوغُّل في سطور الرسائل المضمَّنة في الرواية باب عالم الأسطورة على مصراعيه، حين تبدأ حكايات الجدة لحفيدها الصغير عن «أميرة البراري، وعن بطل تقول إنه حارب التنين، عن كنيسة كبرى كانت في محطة الرمل التي أصبحت الآن فارغة إلا من المعبد الكبير والحدائق المحيطة به»، وعن «كنيسة أخرى، قالت إنها احتفظت بما تبقى من جثامين شهداء ماتوا وهم يحتفلون ليلة الميلاد»، وعن مريم فكري العروس الأبدية، وعن مكتبة الإسكندرية و«الهوجة» التي أتت على كل كتب المدينة، ثم «جاء الشماليون بكتبٍ تتحدث عنهم فقط وبلغتهم فقط، ووضعوها في المكتبة التي تحوَّل اسمها إلى مكتبة السموءل الوطنية». في ذاك الزمان سيصبح الحديث عن «بلاد كانت للعرب ... وثورات متتالية أُطلِق عليها اسم الربيع العربي... كلمات وتسميات غير مفهومة» وليس لها مدلول بالنسبة للبطل الذي عثر على وقائع هذا التاريخ المحذوف من الذاكرة الوطنية للدولة الجديدة في مخطوطات/رسائل قديمة وجدها في صندوقين خشبيين في قبو منزله «تتحدَّث عن آخر ثورات مصر التي حدثت منذ مئة عام تقريباً في 25 يناير 2011» التي لم يسمع عنها أبداً، رسائل مجهولة المصدر موجَّهة إلى شاب يُدعى (محمّد) ضاع من أمه في هرج الثورة، الرسائل التي كُتبت «بخط مرتعش يبدو فيه وهن التقدُّم في العمر أو ارتعاشة الخوف» ثم تكتمل ملامح الأسطورة حين يقول (عادل/مينا) الطالب في جامعة المشير المستقبلية: «مع كل رسالة كنت أدرك أن كل مكان أمشي عليه الآن بالإسكندرية رواه دم شهيد أو مصاب كان يحلم: عيش، حرية، عدالة اجتماعية».
إذاً، كانت هذه ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 المصرية، وفق الأسطورة التي نسجت سطورها الجدّة القديمة التي شاركت في صناعة ثورة بلادها، وتركتها في رسائلها، أمّ يُعْتَصَرُ قلبُها خوفاً ولوعة في شوارع مائجة بالثوار والجنود على صغيرها ابن الخامسة عشرة الذي فقدت أثره، وملأ قلبها الفزع عليه ودويّ الطلقات يأتي من كل مكان، وفيما كان الشبان والجنود المساكين المغلوبون على أمرهم الذين تدفَّقت في عروقهم دماء النخوة، يلتفّون حول المرأة الملتاعة التي انتابها شعور أن يكون ابن عمرها أحد من وجدت طلقات القنّاصة طريقها إلى صدورهم، كان الصغير يمتطي جواد الأسطورة راكضاً بمحاذاة شاطئ البحر ووصية أمه يتردَّد صداها في أذنيه ممتزجاً بصخب الموج وهتاف الثوار: «عليك بالبحر يا محمد، منه بدايتنا، وعليه حياتنا، وهو نجاتنا وهاويتنا. الزم شاطئ البحر لو تفرَّقنا، واركض قدر جهد الأبطال، ولا تنظر خلفك، وسيأخذك البحر إلى حيث أجدك.. ولم يخذلني البحر».
إذن سيصبح هذا الذي نعيشه كله، وفق فانتازيا الرواية ماضياً محظوراً. حتى الأسماء ستصبح غير الأسماء، تخفّياً من خطر ما، كان يُخشى على بعض فئات المجتمع، ستُفَرَّغ الأماكن إما من أسمائها أو من هويّتها، ولن تحمل أي دلالة على هذا الزمان الذي سيصبح تاريخاً منسيّاً.
في الوقت الذي تصدم فيه الراوية المتلقّي بهذا الخيال الفنتازي الذي تستشرف به مآلاً مفرطاً في سوداويته، تسعى في المقابل إلى تثبيت مشهد الثورة نفسه في عمق الذاكرة الوطنية على صفحات الرسائل القديمة التي يجمع نسيجها السردي بلغة متنوِّعة الأسلوب بين التقرير والإنشاء بجميع أنماطه، بين استدعاء أحداث ما قبل الثورة وإرهاصاتها للخروج بالحالة من طور التلقّي إلى طور المعايشة، وأحداث ما بعد الثورة من ادّعاءات وخروقات وخروج بالحراك الثوري عن مساره الأصلي ومن ثَمَّ فقدانه هويَّته وصولاً إلى حالة التشويه التام للثورة والثوار على أيدي حفنة منتفعين مُدَّعين: «قامت الثورة يا محمد، وفجأة أصبح الجميع شرفاء، ونصّبوا أنفسهم قضاة ووكلاء نيابة، يَتَّهمون ويدينون غيرهم في نفس اللحظة».
لعلّ أحد أكبر التحدّيات التي واجهت هذا العمل كان مشهد الثورة نفسه، الذي نجحت الروائية في إدارته من خلال لوحات تصويرية عالية المشهدية شهدت انتقالات خاطفة بعدسة كاميرا بالغة السرعة تضع المتلقّي في قلب الحدث، يسير بين الثوار في: «كرنفال ضخم موشّى بلون علم مصر، شبّان وشابّات، أطفال صغار وسيدات من كل الأعمار»، ونصغي إلى دقّات قلب الأم/الراوية وهي تراقب ابنها وتتمتم: «أسير بجانبك، أتيه بك وأنا أراك تشقّ طريقاً وسط الجنود وأنا أتبعك. خطواتك الواسعة تجعلني أركض كي ألحق بك. لأول مرة ألحظ تلك السنتيمترات التي زادت دون أن أنتبه وجعلتك أطول قامة مني». إن بوسع المتلقّي، بفعل اللغة الديناميكية، أن يعايش الراوية وابنها حتى يكاد يمدّ يده ليشاركهما «تبادل الكاميرا... التقاط الصور... تسجيل الهتافات... إرسال الرسائل القصيرة على (فيس بوك) لوصف ما نشاهد».
يبقى مشهد ضياع محمد من أمِّه الأعمق من بين المشاهد، فعلى الرغم من فردية المشهد في ظاهره إلا أن دلالته العميقة تكشف عن حالة جمعية، حالة مصر التي فقدت أبناءها في هرج ذلك اليوم، فأخذت تفتِّش عنهم غائبة العقل جريحة القلب في الشوارع: «كنتُ أبكي فقدي وافتقادي لك بلا صوت، ولكني سمعت الكون كله يصرخ من أجلي... أبحث عنك يا محمّد، ولا أجدك، وينفطر قلبي خوفاً عليك. تتجسَّد أمامي مصر التي خرجتَ معي من أجلها، لحماً ودماً وروحاً على شاكلة ابني الوحيد، فتنخلع روحي من بين جنبيَّ وتطير». هكذا امتزج العامّ بالخاصّ، وتماهيا (مصر/الأم) في تلك اللحظة المؤثِّرة المتوتِّرة فأصبحت الأم المتجسِّدة في المشهد وطناً يبحث معها عن ابنها الغائب.
صنعت انتصارعبد المنعم من روايتها ديواناً للذاكرة الوطنية، حشدت في نسيجه الدرامي قائمة من أشد المواقف التي خلّفت فيها أخاديدها، بدءاً بالأسماء الكبيرة التي أصبحت محرِّكات رئيسة تدير ماكينة تلك الذاكرة، ووصولاً إلى الأسماء الصغيرة التي أبت المؤلِّفة إلا أن تحصِّنها ضد المَحْو أو النسيان أو السقوط من الذاكرة، لبسطاء دفعوا حَيَواتِهم ثمناً لمحاولاتهم الحصول على فرصة كريمة في الحياة استكثرها عليهم نظام بلا قلب: ضحايا تفجير كنيسة القديسين، ضحايا عَبّارة السلام الغارقة، الشاب ناصر الذي نكَّلَ به أفراد الشرطة، ودسّوا خشبة في سوأته على مرأى من المارة، خالد سعيد الذي قتلوه ثم لفَّقوا له التهم، وشوَّهوا سيرته كما شوَّهوا جسده، والضحايا الذين- مع الوقت- كانوا يتحوَّلون إلى أرقام في ذاكرة الوطن.
لم تنسَ المؤلِّفة أن تَرْكب آلة الزمن قبل إقلاعها إلى المستقبل، لتكون بين هؤلاء الذين أحبَّتْهم وخَلَّدت أسماءهم من أبطال الذاكرة الوطنية: سميرة موسى، وسعيد بدير، ويحيى المشدّ، وجمال حمدان، وأستاذها في مدرسة الشعب الصباحية عوض شيبوب أستاذ اللغة العربية. انتصارهي نفسها الجدّة التي لعبت دور ميلكيادس الروح القوية التي ظلت تتردّد على منزل آل بوينديا ( كما في مئة عام من العزلة لجابرييل جارثيا ماركيز)، انتصار التي أرادت -على ما يبدو- أن تتمدّد في الزمن، وترسم ملامح المستقبل بالفنتازيا، وتتحدّى محو الماضي وعوامل تعرية الوقت للحظات يراد لها النسيان من قوى الثورة المضادة بالـ (FLASH BACK)، انتصار التي تعبر الواقع على جناح الأسطورة، إلا أنها فوّتت فرصة استثمار منجزات أدب الخيال العلمي في الجزء الاستشرافي من الرواية.
تَتَّسق الروح التجريبية في الرواية مع الظرف الثوري الذي وُلدت فيه، في حالة تمرّد إبداعي على السائد والمطروح، سواء على صعيد الطرح الفني الممازج بين مستويين للسرد: واقعي وفنتازي، أو على صعيد الحراك الزمني التردُّدي بين زمنَي الرسائل والزمن الافتراضي المستشرَف، أو على صعيد الأداء اللغوي المتنوِّع باتِّزان بين الغنائية والملحمية والدرامية التراجيدية، أو على صعيد التنوُّع الأسلوبي الواسع بين التقرير والإنشاء بجميع أشكاله، أو على صعيد الطرح الفكري الجريء القائم على مكاشفة الفصائل السياسية بزيف دعاواها وكذب أدوارها البطولية التي تدَّعيها لنفسها، والمواجهة مع القوى الديكتاتورية، وتعرية القوى الرجعية، والانحياز التام إلى صفوف البروليتاريا، شغل انتصار الشاغل. لكن، يبقى السؤال عن السرّ وراء هذه النظرة السوداوية لمستقبل مصر الثورة!.
/مجلة الدوحة/أسامة الزيني
بلغة منتمية إلى عالم الأسطورة، وببناء أقرب إلى كتابة الأساطير
نجحت انتصار عبد المنعم في أن تكتب أسطورتها الخاصة وأسطورة وطنها وأسطورة مدينتها الإسكندرية، باختيارها مستويين للسرد داخل روايتها «جامعة المشير؛ مئة عام من الفوضى» (الهيئة المصرية العامة للكتاب). كلاهما خارج الزمن الراهن، الذي أصبح اعتبارياً داخل العمل- زمناً مستدعى على طريقة الـ (FLASH BACK) تطالعه أبطال القصة الفنتازية التي يفترض أن الأحداث الآنية تدور في زمنها المتخيَّل بعد مئة عام.