Saturday, April 24, 2010

القمة الثقافية وثقافة الاتكالية

ما إن يطل أحد المثقفين علينا من خلال برنامج تليفزيونى أو مقال صحفى حتى تعلو نبرة النقد للحال المتردى للثقافة وما آل إليه حال الثقافة والأدب والأدباء فى العالم العربى. الكبارالذين يعتبرون أنفسهم الممثل الوحيد المعبر عن الأصالة يهاجمون الشباب، والشباب الذين يظنون أنهم يمثلون حركة التجديد والتطور، يتهمون الكباربمحاولة النيل منهم والتقليل من شأنهم، أنصار القصة ينتصرون لها فى مواجهة الرواية، والروائيون يتهمونهم بقصر النفس وانعدام الخبرات الحياتية التى يقوم عليها عصب الكتابة الروائية. فريق يعلن انتهاء زمن القصة والآخر ينتحب على زمن الرواية، شعراء يتغزلون فى قصيدة النثر وآخرون يستجيرون بالمتنبى والفرزدق. وفى المجمل تحول الأمر إلى ما يشبه الظاهرة، فالجميع ينتقد ويهاجم الوضع الراهن. الجميع قد تلبس دور المثقف الحقيقى، وتقلد دور المصلح والمرشد، وتخيل أنه الوحيد الذى يفهم، ووحده القادر على اقتراح الحلول، وعلى الجميع الامتثال لتعاليمه المقدسة. والسؤال الذى يطرح نفسه ما السبب أو الأسباب التى أدت إلى تدهور المشهد الثقافى العربى بصورة عامة؟ وإذا كان الجميع ينتقدون الحال فمن المخطئ إذن؟ أليس المشهد الثقافى هو مجموع كل هؤلاء الذين ينتقلون من برنامج إلى آخر، ومن فضائية إلى أخرى بنفس البكائية على أطلال ثقافة ساهموا هم أنفسهم فى تدهورها عندما تركوا الشأن العام والقضايا الكبرى، وانشغلوا بجوائز ومناصب ساهمت فى تقوقعهم داخل دائرة ضيقة بعيدة عن الواقع الثقافى؟ ليتفاجأوا بعد ذلك مثل غيرهم بأن هناك من ظهر وكبر كنبات الهالوك دون وجه حق ودون موهبة حقيقية، فقط لأن كل مميزاته أنه من ذوى الحناجر الصلدة التى لا تكل ولا تمل الحديث، ويدركوا متأخرا أن هناك العديد من الروافد المستحدثة للثقافة قد تم استنساخها فجاءت كالمسخ لا تعبر عن فكرة ولا عن مضمون ولا ذوق، ولا تحتاج إلى جهد أو معرفه ولذلك من الممكن أن نطلق عليها ثقافة البيض المسلوق أو التيك أوى. ومؤخرا ظن بعض المثقفين الذين ضاقوا بالوضع الراهن أن إصلاح الشأن الثقافى يكمن فى عقد قمة ثقافية لبحث الحالة المتردية التى وصلت اليها الثقافة العربية، ومن أجل البحث والتنقيب عن وسائل وحلول سريعة للحفاظ على الخصوصية الثقافية للدول العربية وثقافتها المحلية فى مواجهة شبح العولمة. وكل هذا بالطبع أهداف نبيلة وعناوين براقة تصلح كمانشيتات دعائية لا يختلف عليها أحد، ولكن ماذا بعد انتهاء القمة؟ ومن بيده فى الواقع وقف شبح اندثار القيم والثقافة العربية الأصيلة؟ وهل لو اجتمع كل الكبار من ساسة وزعماء ورموز ثقافية، هل بيدهم أن يقولوا للمستحيل أن كن فيكون؟ والغريب فى الأمر أنه فى الوقت الذى ينادى فيه الجميع بحرية الرأى والتعبير والنشر والتخلص من الرقابة والمركزية، تخرج نفس الأصوات تهلل وتبارك و تروج لحتمية عقد قمة ثقافية يضعون فيها الشأن الثقافى بجوارغيره من المسئوليات التى تضطلع بها الحكومات، وتمتلئ بها أجندات الرؤساء ورؤساء الوزارات المكتظة بالعديد من المسئوليات والتى طالما تعرضوا للانتقاد بسببها. والمدهش بالفعل أن يعتبر بعض المثقفين أن هناك أملاً كبيراً - إن لم يكن الوحيد – فى نتائج القمة،هذا فى الوقت الذى يعلو فيه صوت العديد من الأدباء مختلفين فى جدوى وأهمية انعقاد مؤتمر واحد سنوى يحضره المثقفون فى مصر، هذا إن تجاوزنا حال المؤتمرات الإقليمية وأفرع الهيئات الثقافية التى تعقد هنا وهناك بلا جدوى فى إحداث حالة من الحراك الاصلاحى فى المشهد الثقافى الذى ينتقده الجميع. من الواضح أن هناك اتجاهاً يتنامى فى الخفاء يهدف إلى التنصل من المسئولية بإلقائها على مائدة رؤساء الدول أو الوزراء. وهذا فى حد ذاته اعتراف ضمنى، بل اعتراف فج بعدم جدوى كل ما تم من مؤتمرات وندوات وتظاهرات أدبية وثقافية فى كل الدول العربية أى أنه إعلان أخير، ورفع راية بيضاء من الأدباء والمثقفين المتحمسين للقمة اقرارا بعجزهم أمام الجميع. وسواء أدرك هؤلاء دورهم أم لا فمن البديهى والمؤكد أن شأن الثقافة هو شأن خاص بالمثقفين أنفسهم، وعليهم الاعتراف بأنهم جزء من المشكلة التى طالما برعوا فى انكار وجودها، وحاولوا دوما إلقاء اللوم على غيرهم. عليهم أيضا أن يؤمنوا بأن الحل بيدهم هم، لا بيد قمة ولا مؤتمر يتم عقده فى أيام معدودات ثم ينتهى بمجموعة توصيات فى كتاب أنيق يوضع على الرف وينتهى الشو الإعلامى الذى سبق وصاحب حضور وغياب أسماء بعينها. وإذا تجاوزنا اشكالية الاتكال على عقد القمة العربية الثقافية كحل أخير للأزمة، ونظرنا إلى الأهداف المراد العمل عليها فى القمة ومنها الدفاع عن الخصوصية الثقافية للدول العربية فى مواجهة العولمة ولتدعيم عناصر الثقافة العربية فى مواجهة الطوفان الاعلامى والثقافى القادم من الخارج نجد أن هذا الهدف تأخر كثيرا جدا، فقد تلاشى مسمى الخصوصية فى الثقافة أو الأدب أوالفكر بعد أن أصبح فضاء الانترنت مفتوحا أمام الجميع للقراءة والاضطلاع والبحث، وتجاوز مفهوم الثقافة الممقصور على الآداب والفنون لتشمل كل نواحى سلوك وعادات الانسان العربى الذى وجد نفسه فى مهب الريح الفضائى والنتى وما خلفاه من تغيرات فى الموروث القيمى والثقافى، ثم جاء الأدباء والمثقفون ليعززوا هذا التغيير بنوعية الكتابة التى اصطلح على تسميتها أدب الهامش، أو أدب المسكوت عنه خاصة فيما يتعلق بالتابوهات الثلاثة، واللجوء إلى ما شذ عن العرف العام كنوع من التجريب والتجديد. وفى النهاية ننادى بقمة ثقافية لحل الأزمة، فقط لنجد ما ننتقده بعد ذلك ولتعمل الفضائيات وتعلو الانتقادات من جديد
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1748.

Friday, April 16, 2010

(انتصار عبد المنعم تخترع أسطورتها ) عندما تستيقظ الأنثى .. ومشهدية البوح .



نتصار عبد المنعم تخترع أسطورتها ) عندما تستيقظ الأنثى .. ومشهدية البوح . إبراهيم محمد حمزة/المساء
" إذا صاحت الدجاجة صياح الديكة وجب قتلها " هذا التعبير القاسى أورده الميدانى فى " مجمع الأمثال " لم يعد له مكانه القديم ، فقد صاحت الدجاجات ، وفاضت ببوحها ، وبالغت أحيانا ، وجأرت بالشكوى منذ اقتنصت شيئا من حريتها ، طارحة نفسها ثائرة على كافة مواضعات مجتمعها تجاهها ، ولم تخرج " انتصار عبد المنعم " عن السياق العام للأديبات المنشغلات بالذات ومنغصاتها ، وقدمت عبر مجموعتها " عندما تستيقظ الأنثى " الصادرة عن دار نون للنشر والتوزيع بالقاهرة ، قدمت سيمفونية أنثوية خالصة ، مهما تنافرت أنغامها ، ورغم غلبة " المهادنة " فى طرح علاقة الذكر بالأنثى ، لكنها قدمت عبر ما يقارب أربعين نصا قصصيا ، أسىً كثيرا وسط بسمات نادرة لامرأة تعيش بين رجال . ــ لغة الأنثى : "إلى البحر الهادر " تهدى الكاتبة مجموعتها ، مؤكدة أنها من اجله وله ولأجله فقط ستكتب . وعبر هذه العتبة الهامة تؤكد انتصار انحيازها للحرية بقوة ، لتقدم ذاتها على طبق من ورق مظهرة آلام الوجد الناتج من وجود رجل فى حياة امرأة : ( لم يسألكِ يوما عن نوع الجرح الذى تفضلين ، خبير هو فى اقتراف كل أنواع الجروح الممزوجة بملح البحر ) ها هو البحر يطل على استحياء ممزوجا بمرارة الجرح ، فى قصتها الأولى فى المجموعة (جروح الملح ) لتقدم صورة لامتلاك الرجل لروح المرأة ، فى حين أنها بالنسبة له مجرد محطة انتظار ، وبين هذا العشق من جانبها ، والإهمال من جانبه تبقى هى ( راهبة فى محراب ذراعيه ، تتبتلين على شفتيه ، ترتلينه حرفا حرفا ، جوقة الأيدى تردد معك مزامير الشوق ) هكذا يتحول المعشوق إلى معبود ، ينكر عابديه ، من خلال لغة بها خصوصية وشاعرية ، غير أنها ملتبسة بسخرية مبطنة خبيئة .. ( كريم هو فى وعوده التى لا تتجاوز اللحظة التى يطلقها فيها ) ثم تضفر السخرية ببلاغتها الخاصة ( لا يعلم أنك تنسجين منها ثوبا يستر ضياعك ) ثم تصل إلى أشد حالات الشوق الشبق ( تتأهبين لمواقعة ذكراه الباقية ) وحتى هذه تفشل فيها وتنتهى القصة بـ ( تضلين الطريق لغرفة نومكما ) هذه صورة من صور شديدة التعدد فى المجموعة ، لعلاقة الذكر بالأنثى ، عبر أنماط المرأة التى رصدتها المجموعة ، سنجد المرأة المشتاقة فى قصص ( قل لى أوحشتنى ـ خمس دقائق ـ عشرون خريفا ) ونجد صورة المرأة المعطاء فى ( غجرية ـ عفريتة ) وصورة المرأة المقهورة فى ( الشيخ الولى ) والمرأة الشاهدة لكل حالات العشق فى قصص ( ذات صباح فى جروبى ـ انتحار ) وصورة بهية للمرأة المحبة فى قصص ( فتفوتة ـ قل لى يا أحمد ـ رسائل غير منطوقة ) والمرأة المقاومة للحب الرخيص فى ( خمس دقائق ـ على الرمال ) وكذلك صور للمرأة المخدوعة والمرأة الأسطورية والمرأة المتسلعة الغبية فى قصة مثل ( أنف وفم ) فضلا عن قصص قليلة جدا خارجة عن الإطار العام للمجموعة مثل ( وللبحر شئون ـ نصف جنيه وقطعة حشيش ) ولكن هناك نموذج مغاير ، لأنه يصور المرأة فى حالة اشتهاء ، وقد نجت الكاتبة فى هذا النموذج من الوقوع فى شرك الشبق اللغوى ، فجاء الحدث دالا وموحيا ، فى قصتها التى منحت عنوانها للمجموعة "عندما تستيقظ الأنثى " لم تستخدم الكاتبة ضمير الأنا ، إنما استخدمت فى سردها الشخص الثالث (الهو ) تبدأ بقولها ( وقفت تتامل واجهات المحلات المخضبة باللون الأحمر ) لاحظ دلالة اللون الأحمر وتكراره ( دببة حمراء ـ ساحة موسكو الحمراء ـ قميص نوم أحمر ـ حمرة الخجل ـ تلال الأحمر ... ) هذا الاحمرار المتوهج ينتقل للساردة وهى تنتقل بين واجهات المحلات ، لترى الملابس النسائية المثيرة المدهشة ، ثم يدور صراع فى نفسها بين الأنثى والإنسانة ، حين ( تقع عيناها على قميص نوم حريرى مكون من قطعتين ، تشعر بالحرج ، ترقص المرأة التى بداخلها كى تشتريه ) تتذكر كلام خطيبها حول عدم أهمية الملابس لأنه ( سينزعها فى النهاية ) . قادت الكاتبة الصراع داخل المراة ببساطة وبراعة صراع الخجل والاشتهاء ، بين انوثة مؤجلة وأنوثة قادمة منتظرة ، تهاجمها بضراوة حين يبدأ ( دبيب النمل يسرى فى سائر جسدها ، يشعرها ببرد الرغبة المقبورة ......... يشتد دبيب النمل ......... تنزع القميص الأحمر .. ترتدى ملابسها الشتوية مرة أخرى ) تبدو رهافة اللغة دالة وهامة فى بنائية هذه القصة ، عبر بناء صراعات متوازية دقيقة بين الذات والأخر ، وبين الرغبة والواقع ، وربما هذا ما دفعها لتجعل الرغبة موازية للأنوثة فى معادلة غير متكافئة ( تحتاج دبا لتضمه إليها ، لتقاوم زحف جيوش النمل ) . ــ بين المشهد والبوح : تدور كثير من السرديات القصيرة بين رحى التقاط مشهد والبوح من خلاله أو البوح المجرد . واللجوء للمشهدية يكون ترسيخا لسلطان الحكاية ، بينما البوح يكون تكريسا لسلطان الفكر ووجهة النظر point of view وهذه المجموعة قليلا ما تلجأ للمشهدية ، ولا تتكأ عليها الكاتبة أسلوبا لتصوير معاناتها كأنثى فى هذه الحياة ، إنما تأتى المشهدية هنا خادمة لفكرة البوح ، فى قصة " غجرية " يترنح المشهد بين الواقعى والخيالى ، عارضا أنثى غجرية ترقص رقصة عنيفة ، امام حبيب أحبها ، وتزوج غيرها ، ويظل الاقتراب والبعد حتى ( ينهض ثائرا ، يدب الأرض معها يدور حولها ممسكا بخصرها ، يرتفع الضجيج ، تجذبه صاحبة الخاتم ، يدور حولها ) هنا صراع أنثوى على ذكر يرتفع الصراع ويشتد يحمل معنى النبل والعطاء حين ( يقع قلبه على الأرض ، تركع ، ترفع قلبه ، تضمه إلى صدرها بشوق ، تخرج قلبها ، تخيطهما معا ، تنسج منهما وشاحا ، تعطيه لصاحبة الخاتم ) القصة حدثية تعتمد لغة لاهثة ، [ حوالى 210 كلمة بها 56 فعل مضارع ، وفعلان ماضيان ] وذلك رغم الإطار المشهدى للقصة ، من خلال السرد المتسارع لحدث بدأ طبيعيا ، ثم تنحو به الكاتبة نحو الأسطورة بهدوء خادع ، إلا أن البوح كامن داخل إطار المشهد القصصى فى عناق سرمدى بين" الفكرى " و" الحدثى " لتمريرإحساس أنثوى بالغ وبليغ . إبراهيم محمد حمزة

Monday, April 12, 2010

كفافيس عاشق الإسكندرية


«
يا جميلة الأوليمب لا تتركى الإسكندرية» جملة بسيطة قالها كفافيس لكريستين فى «إيليت» كانت كافية لتقرر الصغيرة قضاء حياتها كلها - والتى قاربت التسعين عاما - فى الإسكندرية، وتشترى من أجله «إيليت»، وتجعله مذبحا مقدسا لكفافيس، تزينه بأقانيمه وصوره الخاصة على أمل استدعاء روحه فى أرجاء المقهى اليونانى الذى شهد أوج أيام الإسكندرية الكوزموبولتيانية التى صهرت كفافيس اليونانى الأصل، الإنجليزى الجنسية، المصرى الصميم فى روح واحدة لشاعر فريد رأى فى الإسكندرية «إيثاكا» خاصة به، فهى المنتهى والسدرة التى كلما رحل عنها نادته ليلبى النداء حتى النهاية لأنها كانت قوت الأمل الذى لولاه ما استطاع التغلب على رحلة التيه عودة إلى الإسكندرية الجميلة التى نالها الخراب:
(أنتَ لن تجدَ أرضاً جديدة.. ولا بحراً جديداً ستلاحقكَ هذه المدينة دوماً ستسكنُ فى نفس الشوارع..يشيب شعر رأسِك فى نفسِ المنازل سوف تنتهى هنا دائماً إنس أى مكان آخر. فأنتَ لا تملك سفينة ولا طريق وكمّا خرّبت حياتك هنا.. فى هذا الركن فهى خرابٌ أينما ذهبت.
وتصبح الإسكندرية مرادفا لاسم قسطنطين كفافيس الذى ولد فى 29 أبريل 1863 ورحل أيضا فى 29 أبريل من عام 1933، لتلتقى ذكرى مولده مع ذكرى وفاته، تماما مثلما اتحدت الآلهة مع البشر فى أشعاره. مولد وموت فى ذات الشهر وفى نفس اليوم -كما ذكر بعض أصدقائه - وكأنه دخل وخرج من نفس الباب فى نفس اليوم وكأنها إشارة إلى أن الحياة قصيرة وأن الانسان فيها تائه لا يتجاوز الفكرة التى عبر عنها كفافيس قبيل وفاته حين فقد القدرة على النطق فرسم دائرة وفى منتصفها نقطة على ورقة بيضاء. عشق كفافى الاسكندرية فلم يطق رؤيتها بعد وصول البرابرة عام 1882وتعرضها للقصف الذى شوه صورة الجميلة فرحل إلى القسطنطينية، ويبقى ثلاث سنوات تتبلور فيها ثقافته وشخصيته ليعود إلى الإسكندرية التى طالتها يد الدمار والإهمال. لم يطق أن يصور هذا التشوه فى أشعاره كما فعل لورانس داريل فى رباعية الإسكندرية والتى تجلت فيها الكثير من المشاهد تصف الحالة المزرية للشوارع والأحياء السكندرية. أما كفافيس وإن كانت الإسكندرية أيضا هى محور أشعاره فقد حاول الهرب من مشاهد الخراب. جاءت أعمال كفافيس تستدعى الأساطير والآلهة التى كانت لا تكتفى بمكانها العلوى، بل كانت تنزل، تتجول وتمرح مع البشر لتمتزج الطبيعتان معا، فتجىء فى قصائده الحكمة والعبث والرغبة والشبق متجاورات بلا تنافر:(وعلى مدى الزمن، ولكثرة ما لعبت دور ناركيسوس وهرميس، نضبت الدماء فى عروقى، وأصابنى الدمار.يا أيها المسافر، إذا كنت سكندريا فلن تلومنى. أنت تعرف حمية حياتنا هنا وما بها من عواطف متأججة وشبق بهيج. لم يكن كفافيس ملاكا ولكنه كان بشرا ينظر من نافذة بيته ويقول «أى مكان أجمل من هذا يمكن أن أستقر فيه؟ مكان للهو، وكنيسة للغفران، ومستشفى يموت فيه «وكل هذا وجده فى الإسكندرية وحدها حيث إلتقت فى نظره كل متع الدنيا وخلاص الآخرة على مرمى بصره. عاش كفافيس حياته ومات مستوحشا كل المدن، تائقا فى الوصول إلى المدينة المثل إلى «إيثاكا» البعيدة التى تهب روعة الترقب، وتمنح لذة المعرفة والاكتشاف لأشياء جديدة وخبرات متنوعة. كتب كفافيس عن الإسكندرية التى احتفلت به فى ربيع الشعراء، فكيف يكون هناك ربيع بلا شعر؟ وكيف يكون هناك شعر فى الإسكندرية بلا كفافيس؟ فى مكتبة الإسكندرية، جلس الجميع كلوحة من فسيفساء المكعبات التى كانت الإسكندرية أول مكان تنشأ فيه قبل أن تنتقل منها إلى باقى العالم الهلينستى لتشير إلى طبيعة الإسكندرية كمدينة متفردة قادرة على احتواء كل الأطياف والجنسيات، لا تصهرهم، بل تجعلهم يقفون معا، يشِّكلون لوحة واحدة متناسقة، وفى نفس الوقت تعترف بحق كل فرد فى أن يحتفظ بخصائصه التى يتفرد بها عن غيره. كان الجميع ينصتون لأشعار كفافيس، وأشعار أخرى بالعربية واليونانية، وفى كل مرة تنتهى قصيدة، تعلو الأكف بالتصفيق. رفيقتى اليونانية لم تكن تفهم العربية ولكنها طربت وهى تستمع إلى الشاعر الكبير عبد المعطى حجازى وهو ينشد شعرا عن أمه، فصفقت وهى تخبرنى أنها لا تفهم الكلمات ولكنها تشعر بالموسيقى الكامنة التى تتجاوز قيود الحروف. لم يكن مستغربا أن يلقى الشاعر الشاب عمر حاذق قصيدة يستدعى بها المتنبى بعربيته الفصحى بين جموع جاءت تتحدث لغة الشعر، اللغة الكونية الموحدة التى يفهمها الجميع، لغة كفافيس السكندرى الهوى والهوية
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1746.

Sunday, April 04, 2010

القراءة والكتاب المدرسى

القراءة والكتاب المدرسى
منذ زمن ليس بالبعيد كان الكتاب قبلة ومنارة لمن يريد المعرفة، وكان الحصول على كتاب يفوق أهمية الحصول على وجبة تسد جوع معدة لا تكف عن الطحن، وكانت القراءة هى الهواية التى إن سألت أحدهم عنها لأجابك بتلقائية:«هوايتى القراءة والرسم وكتابة الشعر والقصة». وتمر الأيام سريعا ويزيح التليفزيون الكتاب عن عرشه، وتنتشر الفضائيات كالسرطان لتجذب القراء الذين يستغنون عن كل حواسهم من أجل حاسة جديدة لذيذة ومريحة اسمها «موش هاتقدر تغمض عنيك». وتسأل نفس السؤال عن الهواية وتكون الإجابة هذه المرة «مشاهدة التليفزيون». ويتوارى الكتاب وتهدأ المطابع وترتد إلى عصر ما قبل محمد على ومطبعة بولاق. ومع ضياع قيمة الكتاب والقراءة ضاعت الكثير من القيم وتشتت معها الموروث القيمى الذى توارى خلف أفلام العنف والجنس المستوردة. وبالتدريج وبهدوء الثعابين ظهرت مجموعة من السلوكيات الطارئة لم تلبث كثيرا حتى تحولت إلى ظواهر مثل التحرش الجنسى والتطرف الدينى. وعلى التوازى تفشى نوع جديد من القراءة يمكن أن نطلق عليه «قراءة هروبية ارتدادية» أو «قراءة العدم» كتوصيف دقيق لحالة التملص من كل ما يتعلق بالحياة وشئونها، وارتباطها بالماورائيات أو الغيب كعذاب القبر أو المعجزات والكرامات للأولياء والقديسين كنوع من الهروب من المتناقضات المعاشة نتيجة انفتاح تام ومفاجئ على العالم دون أن يقابله انفتاح فكرى يمكن الإنسان من استقبال ثقافة الغير المختلفة بروح محايدة، فينتقى منها ما يتواءم مع بيئته ويترك ما لا يناسبه. لم يجد الشاب العربى من يأخذ بيده ليعلمه سياسة الانتقاء ويدربه على أن يكون مستوعبا لا مقلدا، منتجا لا مستهلكا، بل وجد نفسه فى موقف المتهم إن أخذ موقف المقلد لأشياء سطحية لم تتعد تسريحة شعر أو ارتداء ملابس الهيبز وغيرها مما هو بعيد تماما عن العلم والمعرفة والانتاج والتصنيع. وفى النهاية وقف الشاب صريع تطلعه إلى هذا العالم البراق وهو عار من موروثه وتاريخه وقيمه وفضائله، وبهت داخله مفهوم الخطيئة المزروع فى ضميره الفطرى. ومع تكرار حوادث العنف والتحرش ينبغى أن يكون هناك من يشغله شأن الشباب وهم شعلة المستقبل، ومن الأفضل أن تتولى وزارة التربية والتعليم هذا الدور فبيدها الآن بناء الوطن من جديد والعبور بأبنائه إلى شاطئ الأمان مثلما عبر آباؤهم قناة السويس وصنعوا تاريخ مصر الحديث فى 1973. من الممكن جدا بل من المنطقى أن تبدأ رحلة العودة نحو استعادة هوية شبابنا من أولى مراحل التعليم ومن خلال الكتاب المدرسى نفسه الذى جاء فى مقدمة الكتب التى يقرأها المصريون. فقد أشارت الإحصاءات الواردة فى التقرير:«ماذا يقرأ المصريون؟ «الصادر عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصرى، إلى أن حوالى 88% من الأسر المصرية لا يقوم أى من أفرادها بقراءة أى نوع من أنواع الكتب بخلاف الكتب المدرسية، وترتفع هذه النسبة فى الريف مقارنة بالحضر، أما الشباب الذين يقرأون فتستحوذ الكتب الدينية على النصيب الأكبر من اهتمامهم وذلك بنسبة 64.7%، تليها الكتب العلمية والتاريخية بنسب متقاربة 35.5% و34.2% ثم تأتى الكتب الرومانسية والقصص والشعر بنسبة 31.8% و30.7% لكل منهما بينما بلغت نسبة الكتب الدراسية 26.4%. والقراءة الإيجابية لما جاء فى التقرير، تأتى فى صالح الكتاب المدرسى وسكان الريف. فارتفاع نسبة القراءة بين سكان الريف ربما نفسرها بأن الكتاب ولو كان مدرسيا يمثل نقلة كبيرة وخطوة نحو الانتقال إلى حياة المدن البراقة التى يشاهدونها على شاشات التليفزيون وما تتيحه من خيارات نظيفة فى الملبس والمشرب ونوع التعليم. إذا فارتفاع نسبة القراءة فى الريف تأتى نتيجة رغبة عارمة نحو مستقبل أفضل مفتاحه الحصول على شهادة تلو شهادة، أملا فى الحصول على مؤهل جامعى كمسوغ للتعيين فى وظيفة بعيدا عن الأرض الزراعية وروث بهائمها، وكل هذا مرتهن بالكتاب المدرسى لا القراءة الحرة، وليس بحثا عن الثقافة فى حد ذاتها فما جدوى الثقافة وتنويرالعقل لو وجد الإنسان نفسه محاصرا فى الريف بالمرض والتلوث والعزلة؟ وخاصة بعد أن أصبح مفهوم الثقافة نفسها مبهماً غامضاً ومقصورا على ما تقدمه الفضائيات من قشور زائفة من المعارف من خلال برامج الصوت العالى والصراخ الذى بات سمة جاذبة للمشاهدين والمتابعين والمعلنين من أصحاب السلع الاستهلاكية. والسؤال المهم الذى يجب أن يثيره فعلا المهتمون بشأن بناء الإنسان المصرى خاصة والعربى عامة هو كيف يمكن استغلال الكتاب المدرسى لبناء الإنسان الجديد المستقبلى المتشبع بقيم مجتمعه؟ كيف نستثمر الكتاب المدرسى لننتج جيلا جديدا من المتعلمين المتشربين بقيم واحدة تصب فى خانة الوطن والمواطنة لا الطائفة والطائفية؟. كيف نُعلى من قيمة الكتاب المدرسى إلى الحد الذى يجعل الطالب يحتفظ به على أرفف مكتبته لا أن يمزقه ويدهسه بقدمه انتقاما بعد انتهاء الامتحانات؟. من المؤكد أن كل الإجابات ستدورحول الاهتمام بالمحتوى الدراسى وكيفية تقديمه، لا بكمية المعلومات التى يتم تكديسها تكديسا فى الكتاب الذى أصبح فى مفعوله ووقعه على نفسية الطالب مثل آلة التعذيب فى حجمه وطلاسمه التى لا تتماشى مع البيئة التى يعيش فيها الطالب، ولا مع خصائص المرحلة العمرية التى يمر بها، ولا مع كثافة الفصول الحالية. يجب أن تكون هناك أهداف واضحة ومحددة وثابتة ولسنوات قادمة للتعليم، توضع على ضوئها المناهج الدراسية مراعية الكيف لا الكم من أجل بناء توجه وفكر معين لدى المتعلم وهو المنتج النهائى، أوالمخـرَج المستهدف من عملية متكاملة لها مدخلات يجب الاهتمام بجودتها من أجل هذا المنتَج الفريد من نوعه، كمنتج من لحم ودم وفكر ومشاعر اسمه الإنسان.
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1745