Sunday, July 25, 2010

إله السماء وأرباب الأرض


أخطأ الأدباء والمثقفون عندما ظنوا أن تهما مثل الهرطقة والسحر والشعوذة توارت بانتهاء العصور الوسطى وتقلص السلطة الكنسية وصكوك غفرانها التى كانت تمنحها لمن يقدر على دفع المقابل نظير شبر من الملكوت السماوى الذى بات حكرا على فئة بعينها حسبت نفسها سدنة إله السماء فأدخلت فى روع البسطاء أن الطريق إليه-سبحانه- لا يمر إلا من بين أيديهم وحدهم .
لم يكن أحد يتخيل أن الذى تغير هو مجرد التسميات والكلمات فقط ليحل محلها كلمة التكفير . الصغير والكبير ظن نفسه ربا واستباح لنفسه تفسير الكتب والمطبوعات والروايات، بل والأحاديث الجانبية والمناقشات الشفاهية، وفقا لفهمه وذائقته ومرجعيته الفكرية والمذهبية. وليست «أولاد حارتنا» لأديب نوبل الكبير نجيب محفوظ إلا مثالا واحدا تبعته وسبقته امثلة أخرى انتهت بالمحاكمة المضحكة للتراث متمثلا فى «ألف ليلة وليلة» التى هاجمها أصحاب الفضيلة والعفة مستندين إلى ملفات شرطة الآداب فى مملكة شهريار ليثبتوا أن شهرزاد كانت امرأة قليلة الأدب سيئة السمعة، وأنها ربما كانت عميلة فى يد الأعداء الذين لا هم لهم إلا افساد شبابنا الأفاضل وفتياتنا ربات الصون والعفاف.
فى الحقيقة لم تكن حادثة محاكمة «ألف ليلة وليلة «وليدة اليوم أو هذا العصر، بل هو نهج متوارث تشهد عليه وقائع التاريخ التى تضمنت أحكاما لاهوتية أصدرها بعض البشر ممن ظنوا أنهم يحق لهم الحكم على غيرهم من البشر، وكذلك على الكتب التراثية والروايات ومختلف الأعمال الأدبية، بل إن بعضهم بلغ به الشطط أن طالب بتحريم بعض الخضروات على النساء لأن شكلها قد يوحى بأفكار إيروسية خطيرة!

ولم تكن قلة الدين هى التهمة القاتلة الوحيدة، بل كانت زيادة معدل التدين تهمة أيضا!! فإذا كانت تهمة الفيلسوفة السكندرية هيباتيا قلة الدين وأنها وثنية ، فقد كانت تهمة جان دارك الفرنسية زيادة التدين عن المعدل المسموح به فى عرف رجال الغفران. فهيباتيا الفيلسوفة عالمة الرياضيات والمنطق والفلسفة والفلك، ابنة الفيلسوف ثيون، دفعت حياتها نتيجة تميزها الفكرى الذى انجلت له الحقائق فلم تجد أى تعارض بين المعرفة والدين أو بين الفلسفة والدين فكلاهما فى نظرها نوع من التنوير أو الكشف المعرفى: «لله معرفة ونور، وهو إذا كان قد أودع نوره فى قلوب الرسل والأنبياء، فذلك ليقتبس الإنسان النور منهم، ويدرك أن فى وسعه بهذا النور أن يفكر بعقله المستقل، ويتصل بنور الله نفسه. فالفلسفة لا تعترض الدين إذ أن الدين عاطفة وضمير، والفلسفة بحث فى أصل هذه العاطفة وهذا الضمير.. وهذا إعلاء لشأن الإنسان، وتمكينا له من فهم سر وجوده، ومعالجة شئون دنياه، والجميع بين ضميره الدينى وعقله البشرى فى وحدة داعية ورائعة ترمز إلى الوحدة الكاملة الكبيرة التى هى الله».

كانت هيباتيا تتكلم بمنطق يجذب المستمعين، فخشى سدنة المجد السماوى منازعتها لهم الملكوت الأرضى الذى لا يتضمن العدل أو الحرية اللذين كانا مقياس هيباتيا فى الحكم على الدين. تجرأت الفيلسوفة المرأة على الحديث عن الدين فوجدت من يتهمها بالتهمة التى لا نجاة منها؛ الكفر والزندقة والتجديف لأنها تدخلت فى الدين وهى الوثنية التى تتحدث بلسان فلاسفة اليونان..والتنفيذ فورى وبأيدى الغوغاء الذين يفكرون بآذانهم ، يسحلون أعلم من فى عصرها، يمزقونها ، يحرقونها باسم الدين . وتظل التهمة يتوارثها رجال الحسبة ويأتى اليوم من يناشد البابا بنديكتوس أن يخولهم فعل نفس الشئ بيوسف زيدان لأنه كتب كتابا بفعل العقل والمعرفة .

وإذا كانت تهمة هيباتيا وثنيتها ، فتهمة جان دارك على العكس تماما، فتلك الفتاة الصغيرة قادها إيمانها إلى أن تقود جيشا من اثنى عشر ألف جندى باتجاه أورلينز وهى فى الثالثة عشرة من عمرها، بل وتجرأت لتكتب رسالة إلى ملك بريطانيا تهدده: « أرسلنى المتعالى ملك السماوات والأرض لطردك من أراضى فرنسا، التى انتهكتَ سيادتها وعثتَ فيها فساداً... لو أطعتني؛ فسأرحم رجالك وأسمح لهم بالذهاب إلى ديارهم، وستذهب المملكة إلى الملك تشارلز، الأحق بالإرث... وإلا سنشعلها حرباً ضروساً لم ترَ فرنسا مثلها منذ ألف عام». وكان لها ما أرادت وحررت أورلينز. ولم تكتف بذلك، بل واصلت الزحف فى اتجاه باريس، ولكنها سقطت ضحية الخيانة وتم تسليمها إلى الانجليز الذين أدركوا أن أى تهمة أرضية لجان دارك لن تفلح فى التخلص من محبة الناس الذين انساقوا وراء إيمانها العميق بأن لها رسالة على الأرض لابد أن تنجزها.

ولذلك كانت تهمة السحر، وهى التهمة المساوية للكفر، كوسيلة لن تنجو منها الفتاة ، فالتهمة تتضمن طردا من ملكوتهم الأرضى والملكوت السماوى الذى بات مرتهنا بكلمة من مخلوق بشرى سمح لنفسه أن يقنن معايير الإيمان ومقداره وأن ينازع إله السماء فى الحكم على خلقه . وقـُدمت جان إلى محكمة كنسية ، واعتُبرت بموجب قرار المحكمة ملحدة ومرتدة ، والحكم هو الموت حرقا. وأحرقت عذراء أورلينز حية . واستمتع المشاهدون برؤيتها تتعذب مثلما فعلوا بهيباتيا حين تلذذوا بنهشها باسم الدين أيضا. إن اختلف النهاشون فالموضوع مشترك ؛ بشر ينازعون الله الحكم على مخلوقاته وكأنه –سبحانه – لا يملك أن ينتقم من الملحد والمشرك ، أو أنه فوضهم ونصبهم أربابا فى ملكوته ليحكموا بغلظة قلوبهم الطينية المنشأ التى احتفظت بسواد الطين لا نور فيض الخالق على العالم. وتمر السنون وتتحول جان دارك إلى قديسة وتؤلف عنها الكتب وتنسج عنها المعجزات الخارقة .

ولكن ما جدوى أن تتحول إلى قديسة بحكم محكمة قد أصدرت حكم إحراقها من قبل إن لم نؤمن بأن هناك إله سماوى بيده وحده الحكم على الجميع، وبيده وحده حسابهم فى الوقت الذى يريده هو؟

وما جدوى أن تتناولها الأقلام، والأفلام والتى يقال إنها تعدت المائة فيلم إن لم ندرك مغزى الواقعة نفسها فى خطورة أن يتولى البشر مسئولية الآلهة على الأرض؟
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1761

Friday, July 16, 2010

«تتمة وجع» مجموعة قصصية



محمد الفخراني ؛ فنان تشكيلي جاب الوطن العربي يحمل حلم القومية والوطن الأكبر بين جنبيه ليجسده في لوحات ومنحوتات متناثرة ما بين ينبع البحر، وقرة بوللي (ليبيا) ، فاس، تونس، ومصر . أقام المعرض تلو الآخر فإذا اكتمل الحلم ووصل إلى التتمة تحول عن مرسمه المكتظ بالألوان والتماثيل ليمسك بالقلم يرسم به مشكلا لوحات من أحرف لا تقل ابداعا وتجسيدا لتلك المشاعر والخلجات التي خبرها طيلة عقود مارس فيها النحت والتصوير قبل أن يتجه إلى سحر الكلمة التي أدرك أنها كانت البدء في رحلة الخلق والتكوين .
أصدر الفخراني رواية «نشيد الحرمان» ومجموعة قصصية «لمع السراب» ، و رواية «بساط من قلوب وجباه « التي حصد بها لقب أفضل رواية وتم نشرها في مكتبة الأسرة بعد ذلك . مؤخرا أصدر مجموعة قصصية جديدة بعنوان «تتمة وجع» . وكما يبدو من اسم المجموعة الذي يشي بجوها العام فهي تتأرجح ما بين الحياة والموت والرحلة الممتدة بينهما المفعمة بالشجن الناتج عن الفقد الذي يتساوى فيه فقد الأشخاص مع فقد التواصل والتعايش مع الواقع الذي يتنسم الفنان هزائمه أكثر من غيره .
ولعل احساس الفقد جاء بهذا القدر من الشجن الصادق لأن الفنان محمد الفخراني ينتمي إلى جيل عايش زمن الحروب العربية وصعود الرموز وتواريها ، وعاين عن قرب الانكسارات والهزائم و المد القومي الوحدوي وانحساره بعد ذلك . ولذلك جاء كل هذا كخلفية عامة تغلف قصص المجموعة التي تعكس وجوها متعددة لحالات الشجن والحزن والوحدة . تتحدث «تتمة وجع» عن الفرد المأزوم الحالمٍ الذي يجد صعوبة في التواصل مع واقعه فيلجأ إلى الإنفصال عنه كحيلة هروبية وقتية قد تريحه عناء تهافت الأسئلة المدوية في ذهنه .
ولرسم حالة الإنفصال عن الواقع لجأ الفخراني إلى «الرحيل « والحنين إلى الماضي» ليصبغ بهما سلوك شخوصه في تعاطيهم مع الحياة . فالرحيل يحمل المعنى الزمني مثلما يحمل الدلالة المكانية . والحنين ماهو إلا ارتحال عاطفي شعوري أو لا شعوري ، وانتقال من لحظة آنية إلى عوالم ولحظات بعينها نتيجة عدم القدرة على التواصل أو التكيف مع الحاضر الراهن . و الرحيل بمعناه المكاني البديهي يعبر عن مفارقة المكان واستبداله بآخر سواء جاء ذلك طوعا بحثا عن عمل أو قسرا : «أجوب الدنيا من أجل لقمة عصية، ومن أجل أن أتحرر من كبت طال، ووحشة عمر أقطعه من غير تبرم.....» وإلى غير ذلك من الصور والكلمات التي عبر بها الكاتب عن الحركة والانتقال والديناميكية ، بل إنه لجأ إلى أنسنة الجمادات لمواجهة فقدان آدمية البشر وخلع عليها الصفات التي تعكس حالة الحزن أو الفرح وما يعتلج في نفوس شخوصه العديدة .
وقد يكون الرحيل أو الارتحال بمعناه الزماني الموصول بالحنين الذي يشي برغبة الانفصال عن الواقع الحاضر المستعصي فلا يكون هناك من حل إلا العودة إلى زمن معين ؛ غالبا ما يكون زمن الطفولة حيث البراءة ومنابت الأمل ، ويكون المكان الأثير والملاذ الأخير في صدر أمه «صابرة» التي تحولت إلى رمز دائم الحضور في أعماله يجسد بها الوطن وأرضه البكر التي لا تتبدل مثلما تبدلت الشعارات والزعامات ، ويظل صدرها ملاذا أبديا بعيدا عن ترسيم الحدود وتقنين المشاعر بمسميات المنع والحظر .
ويتكرر ظهور واختفاء «صابرة» كأم وكأنها تحولت إلى رمز للتوحد مع المطلق أو للحقيقة التي يصل إليها المبدع وحده لأنه القادر على استنطاق المجهول :» المجهول واللامرئ هو مايراه المبدع بمفرده» كما قالت ناتالي ساروت . وهكذا تأتي «ارتحال إلى صابرة» متماوجة بين ضمير الغائب والمتكلم والمخاطب، مفعمة بالشجن تعطي دلالة الفقد وفي نفس الوقت تجسد العشق والتوحد الذي جعلها رمزا للحياة ذاتها .
ومن اللافت في قصص «تتمة وجع» تجاور الحياة الموت؛ بل إننا نلاحظ احتفاء الكاتب بالموت وكأنه يعتبره شكلا من اشكال الرحيل بصورة معادلة للسفر لبلد آخر مثلا أو كأنه الحقيقة التي لا تقبل الشك» ..لابد أنه أدرك منطق الموت الذي يسكننا ونسكنه ، ويلازمنا ملازمة الظل ونلازمه»
لجأ الفخراني إلى تقنية الاستباق والاسترجاع أو الفلاش باك في معظم القصص مما أضفى حيوية على لغة السرد التي جاءت مشحونة بالعاطفة ، ففي «ذاكرة النخيل» يبدأ السرد من نقطة سابقة للبداية ثم يعود ساردا ومعطيا تفاصيل ماقبل الوصول لتلك النقطة .
وفي «دموع على جدران القلب» يجعل البطل يستخدم الفلاش باك ليتجاوز لحظة موت الأم ولو للحظات بتذكر لحظات له معها ، وهكذا في «دوائر القهر» يرتحل البطل إلى الماضي مسترجعا حماية أبيه الراحل وحضن أمه الدافئ دوما ، وفي «تتمة وجع» يستبق الكاتب الروائي مشهد تكريمه مرتحلا عن لحظة شعوره بالعجز أمام آلام ابنه المريض وهو لا يملك التكاليف اللازمة لإجراء عملية جراحية تنقذ حياته .
و تمضي قصص «تتمة وجع» يتجلى فيها تقنية الفلاش باك لاسترجاع لحظات ماضية ترمم بها أحزان الحاضر ، أو لاستعادة حلم المجد القومي . أما في «البرهان» فقد جاءت تيمة الارتحال ، والانفصال بصورة لا منطقية حيث كان ارتحالا أو فقدانا للعقل . فالشيخ فرهود يمثل عبثية الواقع الذي قد يكون فقدان العقل فيه هو المهرب الوحيد فيفقد الصلة المنطقية بين الانسان ومجتمعه، ففي الوقت الذي يتمتع فيه فرهود بقوته الجسدية وفحولة رجل كامل وهو الفاقد للعقل ، يأتي شيخ الخفر عاجزا عما يستطيعه هذا المجنون الذي أوشك أن يغوي»رضوى» التي لا تجد سوى الأحلام والأخيلة لتجرب مشاعر أمومه بعيدة التحقق . حتى هذا الطفل الذي لم يولد بعد في « ميلاد» يسترجع أبا مفقودا ويستشرف أما على وشك أن يفقدها حينما يولد . وهكذا في «تتمة وجع» يثبت محمد الفخراني أن القلم ماهو إلا امتداد طبيعي لفرشاته وألوانه وأن ما يكتبه ماهو إلا لوحات تحمل كل مقومات الفن والجمال.
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد 1760

Saturday, July 10, 2010

ساراماجو وشجرة الزيتون



ساراماجو وشجرة الزيتون

مابين القلم والحياة اليومية والمواقف الثابتة مسافة تتسع وتضيق بقدر قد يتوج الكاتب فيجعله نبيا، أو يهوى به إلى صفوف المنافقين الذين يكتبون بلا معرفة ويعيشون ويموتون وهم فى نفس الحيز الضيق لا يتجاوزون شئونهم الصغيرة التى يشاركهم فيها حتى الحيوانات الضالة التى لا هم لها إلا التنافس على ما يحفظ لهم الحياة والنوع . ولكن إن استطعت أن تحتفظ بهذا الطفل داخلك ، وإن نجحت فى أن تتنفس ما تكتب، وتكتب ما تحياه ، وتموت فتكتب موتك زيتونا وفكرا لا يقبل المساومة، أنت إذن ساراماجو!!.
عندما مات جده جيرونيمو، نعاه إلى زيتونة: «ذهب إلى حديقة بيته، هناك بضع الأشجار، أشجار تين وزيتون، ذهب إليها واحدة واحدة واحتضن الأشجار ليقول لها وداعا، لأنه كان يعرف أنه لن يعود، إن رأيت شيئا كهذا وإن عشته ولمْ يترك فيك ندبا إلى آخر العمر، فإنك رجل بلا إحساس».
وعندما مات جوزيه ساراماجو كان قد أوصى بجزء من رماده إلى زيتونة أيضا حيث تضمنت مراسم الجنازة إحراق جثتة فى مقابر لشبونة على أن يمنح نصف الرماد الناتج الى قرية «أزينهاجا» التى عاش فيها طفلا، والنصف الآخر يرش عند جذر شجرة زيتون فى حديقة منزله فى لانزروت التى كانت منفاه طيلة الـ 17 عاما الأخيرة من حياته.
ولد وجوزيه ساراماجو، فى 16 نوفمبر 1922 بمنطقة أريناغا بوسط البرتغال لعائلة من فقراء المزارعين، مارس حرفة الحدادة والميكانيكا فى الصغر، وعمل بالترجمة والنشر، وبدأ حياته كشاعر فأصدر ديوانين شعريين بعنوان «قصائد ممكنة»، و»ربما فرح» ثم اتجه للرواية وكانت البداية بروايته «أرض الخطيئة» والتى نشرها عام 1947، وفى عام 1982 قدم روايته «مذكرة الدير» التى كانت أولى خطواته فى طريق الشهرة ، وكتب أيضا العمى، عام وفاة ريكاردوريس، قصة حصار لشبونة، كل الأسماء، الرجل المنسوخ، انقطاعات الموت ، الطوف الحجرى ، و رحلة الفيلة».
عاش ساراماجو ومات بعقلية الطفل المشاكس الذى يتوق للتمرد والتجريب كارها للظلم رافعا صوته ومشهرا قلمه مناصرا للمقهورين فى كل مكان ، وجاهد ليحتفظ بهذا الطفل داخله : « دائماً حملت فى داخلى الطفل الذى كنت والآن لا يزال لذلك الطفل الأهمية نفسها التى كانت له عندما وجد نفسه وحيداً وسط الريف ناظراً إلى الأشياء ومستكشفاً العالم من حوله « . هذا الطفل هو نفسه الذى جعله دوما ساراماجو الذى عرفناه مشاكسا لا يخاف الكبار فيصف فى كتابه «الدفتر» الرئيس السابق «بوش» براعى البقر الذى ورث العالم وظن مخطئا أنه قطيع من الماشية ، ويتهكم على رئيس الوزراء الإيطالى سيلفيو برلسكونى غير مصدق أنه خرج من نفس البلد التى خرج منها الموسيقار فيردى‏‏.‏ وأكثر من هذا نجده فى «الدفتر» الذى اشتمل على مقالاته وتدويناته التى نشرها على مدونته منفعلا ومتفاعلا مع الأحداث الجارية على مدار عام‏ (‏ منذ ديسمبر‏2008‏ وحتى أغسطس‏2009)‏. بلا تردد لبى دعوة الشاعر الكبير الراحل محمود درويش لزيارة الضفة الغربية وقطاع غزة عام‏2002‏ ضمن وفد اتحاد الكتاب العالمى،‏ ويكتب بعدها رأيه الشجاع الداعم للحق العربى فى التواجد على أرضه ومهاجما كل الاعتداءات اللا إنسانية. ويكتب أيضا مهاجما العدوان على جنوب لبنان في‏2006 ، و قصف غزة في‏2009.
ويتمرد على الأفكار المتوارثة فيكتب مثلا ليبرئ قابيل من قتل أخيه هابيل فى راويته «قابيل»، ويكتب رواية»الإنجيل بحسب يسوع المسيح» مشاغبا ومتحديا للفكر اللاهوتى واضعا بصماته الأدبية والفكرية فيها والتى لاقت هجوما شديدا من الكنيسة الكاثوليكية البرتغالية والفاتيكان فيرحل إلى أسبانيا ويعيش مع زوجته الأسبانية «بيلا ديل ريو» حتى آخر أيامه فى جزيرة «لانزارتو» بجزر الكانارى ويخلق عالما من صنعه بعيدا عن آلهة المنع والمصادرة لأفكاره ومواقفه الصلدة المغايرة لموقف الباقين الخائفين الذين يكتفون بالمراقبة عن بعد . بل يتمرد على الحدود الجغرافية وطبقية التصنيف والمصير الحتمى والأقدار التى نعتقد أننا لا نستطيع تغييرها أو التحكم فيها فيلجأ إلى مزج العبثية والفانتازيا بالواقعية، فيفصل شبه الجزيرة الإيبيرية عن أوروبا ويجعلها تسبح عائمة فى المحيط الأطلسى فى «الطوف الحجرى»، التى نشرت عام 1986، وفى روايتيه «العمى» و«البصيرة» يصاب بلد بأكمله بالعمى، وعبث بفكرة الموت فى «انقطاعات الموت» مفترضا غياب الموت عن مدينة ما، وكيف يكتشف أهلها أهمية الموت فى حياتهم.
عاش ساراماجو ينشد السلام ويطالب به للجميع ولذلك لم يكن غريبا أن يوصى بأن يتوحد مع شجرة زيتون وأن يصبح وقودها يضيىء زيتها . ساراماجو شجرة الزيتون ، أو هذا الرماد وإن مات فقد تحول وأصبح جزءا من الكون السرمدى تستطيع أن تستنشقه وتتنسمه فتخلد معه
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1759 .

Tuesday, July 06, 2010

أنين الجواري

د.سميحة إدريس وأنين الجوارى
إذا كان بلزاك قال: «يعتقد الرجل أنه بلغ غايته إذا استسلمت المرأة له، وتعتقد المرأة أنها لا تبلغ غايتها إلا إذا شعرت أن الرجل قد قدر ما قدمته له» فقد عبرت عن ذلك سميحة إدريس بوضوح عندما استنطقت نساءها المعذبات فى كتابيها « أنين الجوارى وعشقت القمر» ليكشفن أنه وعلى الرغم من الخطوات الحثيثة لتمكين المرأة والتى قد توحى ظاهريا بأن المرأة قد نالت بالفعل كل حقوقها، إلا أن هناك الكثير من المشكلات القابعة تحت هذا المظهر الجميل توشك أن تنفجر، مشكلات حياتية نتجت عن عصور من التفرقة والتمييز، اهتمت بها الكاتبة التى اختلط عندها العمل الصحفى بالحس الأدبى الذى يظهر فى مجموعة المقالات أو المشكلات فى كتاب «أنين الجوارى» أو الأعمال القصصية فى مجموعة «عشقت القمر».
نجد فى «أنين الجوارى»مجموعة من المشكلات تصف ما تعانيه المرأة من شريك الحياة الذى لا يفهم طبيعتها الأنثوية التواقة دوما إلى الحنان والاحترام والتقدير والاحتواء. يحتوى الكتاب على أكثر من عشرين مشكلة تحوم حول الحرمان العاطفى، والبخل فى الإنفاق وفى إظهار المشاعر والتعبير عنها والتى قد يعتبرها الرجل الشرقى بموروثاته الذكورية البائدة انقاصا لهيبته وهيمنته المفترضة والقائمة على سياسة الصوت العالى والعضلات. تتحدث أيضا عن الفتيات اللواتى يلجأن إلى «ظل الرجل» كى يتخلصن من «ظل الحائط» خوفا من شبح العنوسة الذى يهدد الفتيات بعددهن المتزايد .أيضا تسوق الكاتبة نماذجا من الخرس الزوجى وانعدام التواصل بين الأزواج .
وهناك نماذج أخرى واجهت عذابات الفصام بين ما يظهره الرجال من تفتح فى علاقاتهم خارج المنزل، بينما هم داخله يقومون بدور السجان الذى لا هم له إلا وأد صوت شريكته التى ينظر إليها على أنها وسيلة لتفريخ الأولاد فقط، بعد أن قام والدها باستثمارها كأى صفقة يعطيها لمن يدفع أكثر أو لأقرب شخص يخلصه منها ومن مصاريفها: « متى يصل بنا الزمن إلى اعتبار أن المرأة إنسان؟ إنسان له الحق فى الحياة الكريمة ..إنسان له الحق كل الحق فى الاختيار إنسان له عقل وفكر وعلم».
فى كل مشكلات «أنين الجوارى» يعلو صوت المرأة تعرض شكواها من جانب واحد فقط، ومن وجهة نظرها الأنثوية التقليدية الحالمة دوما بالعش الهادئ والغزل على أضواء الشموع، تلقى بالتهمة على الرجل الذى لا يفهمها ويقف فى طريقها ، مع أنها قد تكون الملومة فى بعض المشكلات التى تعترف فيها بأنها تزوجت فقط لتهرب من الفقر أو خوفا من لقب عانس، أو عن اندفاع عاطفى وعلى غير رغبة الأهل والعارفين بشئون الحياة. ولذلك رغم أننا نتعاطف مع أكثر الحالات إلا أننا لا نجد مبررا أحيانا لتبدل الحال من السعادة الغامرة إلى النقيض تماما من تعاسة وعذاب لا ينتهيان . جاءت كل المشكلات بلا حلول، فهى مجموعة من الأنات أو باقة من التباريح ممن ارتضين أن يتبوأن مكانهن فى صفوف الجوارى عندما تنازلن عن حقوقهن البسيطة الواحدة تلو الأخرى حتى تم سلبهن تماما.
وهكذا تمضى د.سميحة إدريس على هذا النهج المهاجم للرجل على طول الخط وعرضه، وهذا غير منطقى فالمتجبر لم يكن ليتجبر لولا أن وجد من يخضع له، ومن يذعن له، ولذلك إن كان الرجل ملوما مرة فالمرأة ملومة مائة مرة . ومن غير المنطقى أن كل النساء مثقفات جميلات من عائلات محترمة عاشقات ومخلصات ولديهن طموح ومستقبل واعد بينما الرجل هو ذاك الأصلع البارد «بكرشه الكبير، ونظارته الكعب كباية» العدو المتحجر القلب الحاقد الحاسد الذى يغار من تفوق زوجته والذى يسعى دوما إلى هدمها كما تم تصويره فى «أنين الجوارى». فى «محاباة الرجال ..للرجال» تتحدث الكاتبة عن مشكلة عايشتها بصفة شخصية وعانت من كونها أنثى فى مجتمع ذكورى لا يعترف بالمرأة ككيان كامل مستقل، ومن كونها باحثة دكتوراه لها بحث مميز استكثره عليها الأكاديميون من الرجال فحاولوا حرمانها من مجهودها ونسبه إلى آخر صديق أكاديمى لولا أن الأستاذة «نوال عمر» وقفت بجانبها وحصلت سميحة إدريس على درجة الدكتوراة ببحثها قبل أن يتقدم به السارق .
وفى النهاية ومن خلال عرضها لمشاكل حواء تحاول الكاتبة افهام الرجل أنها ليست بمعركة ، وليست حربا فهى تتوق إلى حنانه واحترامه، تشتاق إلى كتفه . فالمرأة إن أثبتت وجودها فى مجال العمل أو الدراسة ، لا يعنى ذلك أبدا أنها ليست بحاجة إلى اثبات وجودها الطبيعى والأثير بين ذراعى رجل بعينه تحبه ويحبها ، وكما قال بيرون « الحب جزء من وجود الرجل، ولكنه وجود المرأة بأكمله
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد 1758
.