تهيمن على الفكر العربى الجمعى ما تعارف على تسميته «بنظرية المؤامرة» وذلك لتفسير أو لتبرير سيل الأحداث المتسارعة على كل الأصعدة ، وخاصة التاريخية والسياسية منها ، والتى يكتنفها دوما الغموض وتخضع للشد والجذب من أطراف عديدة تسيطر على المشهد العام . ولكن اللافت أن استخدام وتفسير الأحداث استنادا إلى نظرية المؤامرة آخذ فى التوسع والانتشار يوما بعد يوم ، حتى أصبحت شماعة يتصيد بها البعض أخطاء آخرين ، أو لاعطاء سبب أو تفسير لحدث لا يعلمون عنه الشئ الكافى ؛ تماما مثل المنجمين الذين يحيلون سوء الطالع إلى النجوم وحركة الكواكب . فمن تستهويهم نظرية المؤامرة يجدون فيها حلا سهلا وميسرا وقاطعا لا نقاش فيه لمشاكل مزمنة أو عصية على الفهم والتعاطى كأى حدث آخر .وهكذا يحيل عامة الناس مشاكلهم إلى الأعمال السُفلية التى يقوم بها الجان ومردة الشياطين ، و الطالب الراسب يبرر رسوبه باضطهاد المدرس له، و الذى يتعثر بحجر على باب منزله يشك فى تآمر جاره عليه بدلا من أن يفكر أنه ربما سقط من بيته الآيل للسقوط ، و لا يجد العاطل عن العمل غير أن يزعم أنه ضحية الاضطهاد والتمييز من نوع يختاره على مقاسه وفقا لمذهبه الدينى مثلا أو انتمائه السياسى كحل سريع يوظف فيه نظرية المؤامرة ليصبح ثوريا وداعيا إلى الحرية والعدل والمساواة تتهافت عليه بعض الجهات ويصبح مناضلا تنطبق عليه مقولة مارك توين «من السهولة أن تجعل الناس يصدقون كذبة، ومن الصعوبة إزالة تأثيرها عليهم». لتصبح نظرية المؤامرة الحل الشافى لتبرير كل خسارة وكل هزيمة وكل مرض .فانفلونزا الطيور مؤامرة من شركات الأدوية الغربية التى تريد الترويج لبضائعها وانهاك الشعوب العربية الرشيقة القوام جميلة القد بالمرض ، ولقاح انفلونزا الخنازيز مؤامرة لنشر مرض «متلازمة جوليان باري» الذى يؤثر على الجهاز العصبى وذلك لرفع نسبة الجنون والعته بين شعوبنا العربية المتوازنة العاقلة ، وتوتر العلاقات بيننا وبعض الدول مؤامرة لصالح الصهاينة ، والقنوات الفضائية الفنية مؤامرة صهيونية لإفساد الشباب رغم أن مالكيها عرب مثلنا ، حتى المشاكل الإجتماعية الناتجة عن سوء التربية داخل المنزل أصبحت مؤامرة من الغرب الشرير على الشرق الاسلامى الوديع المستهدف دوما فى نظرهم. حتى تحولت هذه النظرية إلى ما يشبه المرض النفسى ، بل من الممكن أن نطلق عليه «مؤامرة فوبيا» ، والحق هو ليس باختراع غربى كما يشاع عنه ، بل إن نظرية المؤامرة هى مجرد تسمية مستحدثة لما نعرفه بسوء الظن ، وسوء الظن هنا ثقافة عربية متوارثة خلفتها تراكمات قديمة مرتبطة بشكل أوبآخر بفكرة العداء القديم مع الدول الغربية التى ارتبط اسمها بفترة الاستعمار والحركات التحررية والثورات .. وبنظرة على عالم المثقفين والأدباء نجد أن الوسط الأدبى أو المشهد الثقافى العربى الراهن لم يسلما من نظرية المؤامرة أيضا . فمن البديهى أن فوز أديب ما بجائزة يستلزم أن يكون هناك من لم يفز بها ، ولكننا وللأسف نعانى من ضياع ثقافة تقبل الخسارة مثل تقبل الفوز ، لا بدائل لدينا ، وكما يطالب كل الآباء أبناءهم بالحصول على المركز الأول ، يفعل الأدباء اليوم . فإن لم يحصلوا على الجائزة فالفائزون عملاء وخونة ، لهم وسائط وصلات بالمحكمين ، وإن كان الفائز من جنس النساء فهى سيئة السلوك ونالت الجائزة ليس عن مجال الأدب بل عن «قلة الأدب»..وإن تعددت الجنسيات المشاركة فى مؤتمر أو جائزة مثلا ، تتطور نظرية المؤامرة لتتعدى الحدث نفسه وتنسحب على الدول وسياستها العدائية ضد المثقفين من الدول الأخرى ، وتتجاوز المشهد الأدبى المعنى بالحدث ويتم تحميل الأمور ما لا تحتمل من نقاشات وسجالات عقيمة وهذا تما ما ماحدث مؤخرا فى ملتقى القاهرة للقصة القصيرة . ففى الجلسة التى ترأسها الأديب الكبير يوسف القعيد ، كان على الناقد الدكتور عالى القرشى أن يلقى ورقة بحثية عن القصة القصيرة فى المملكة العربية السعودية . وعندما استوقف القعيد الدكتور القرشى طلبا للمزيد من المعلومات عن شخصه ثم مناقشا للورقة وطلبا للإختصار لأسباب تتعلق كالعادة بأمور تنظيمية تعودنا على وجودها فى كل المؤتمرات ، تم تحميل هذا الحدث الكثير من سوء الظن ، وتضخم الموضوع من شيء يتعلق بالأديب يوسف القعيد وحده وضمن سياق محدد ، و تم إرجاعه وعلى الفور إلى نظرية المؤامرة ليكتب أحدهم عن التهميش الذى يمارسه أدباء «مصر» ضد أدباء الدول العربية ، وأن عدم معرفة القعيد بالقرشى عيب وذنب لا يغتفر ،وأن ذلك تقليل من شأن القصة القصيرة فى المملكة . بل تطور الأمر فى تعليق كان مليئا بالأخطاء اللغوية لأديبة وصحفية ناشئة إلى أن القعيد تملكته الغيرة من ورقة الدكتور القرشى : «... ليس من حق مدير الندوة أو الأمسية أن يستعجل المشارك أبدا ، كون الدكتور مدعوًا من المجلس الأعلى للثقافة ولكن اخواننا المصريين دوما يصرون على أنهم الأفضل والأقدر ومع احترامى للإعلام فهم ليسوا كذلك ، وما حدث أنا شخصيا لا أفسره إلا غيره من الورقة التى بين يدى الدكتور ..» .ثم قفز الأمر لتتكاثر نظرية المؤامرة وتنجب العديد من التفسيرات تتعلق بالدولة كلها والهيمنة التى تريد فرضها على الجميع وتهميش الآخرين من المثقفين من خارجها . ومع كل تعقيب يكتبه أديب مثقف تخرج لنا نظرية المؤامرة لسانها ساخرة من تقزم العقول العربية التى مازالت تعيش عصر الحلول الغيبية لأمراضها العضال ؛ فمصباح علاء الدين وحده سيحل مشاكلنا المزمنة ، والمنجمون فى يدهم تفسير وشرح أسباب هزائمنا فى كل المجالات أمام دول العالم التى تتسابق نحو الفضاء ، فى الوقت الذى مازلنا فيه كمثقفين وأدباء نشد بعضنا البعض نحو الهاوية نبحث عن تميمة أوتعويذة لفك عقدة «نظرية المؤامرة
مجلة أكتوبر العدد1730».