انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1699
«الجنوبى» الباحث عن الحقيقة
جاء الأصدقاء والمريدون إلى مكتبة الإسكندرية ليحتفلوا بميلاد أمل دنقل؛ هذا الجنوبى الذى وإن ارتحل فهو لم يمت، فقد عاش فينا بأشعاره، ليولد من جديد مع كل قراءة لأعماله. لم يكن هناك أبدا حفل تأبين ولا مراسم للحزن، بل طقوس احتفالية تضمنت شهادات وذكريات وموسيقى وغناء لبعض قصائده قدمتها أوركسترا مكتبة الإسكندرية؛ تماما نفس الطقوس التى تصاحب الاحتفاء بميلاد أصحاب الكرامات الذين تُشد إليهم الرحال، وتقام لهم الموالد بعد وفاتهم. الجنوبى الذى رحل منذ ما يقرب من ربع قرن بعد حياة قصيرة لم يعرف فيها احتفالا يتجاوز لحظة ميلاد قصيدة تحمل شيفرته المميزة وبصمته.تضمنت الاحتفالية عرضا للفيلم الوثائقى «حديث الغرفة رقم 8» وجاء فيه صوت وصورة الجنوبى وكأنه مازال نزيل الغرفة نفسها فى الطابق التاسع من مستشفى معهد السرطان. وعندما ظهر اسمه المنقوش على لوح من الرخام الأبيض المبلل بدموع أمه، التى ما كان يخشى الموت إلا خوفا عليها، أطل الموت ليذكرنا بأن أمل يرقد الآن تحت الأرض لا على سريره. ولكن وعلى الرغم من كآبة وقتامة أجواء المدافن، فإنه لم يكن مجرد قبر تبكى عليه أم ابنها، فقد أصبح للجنوبى أخيرا عنوان ثابت وبيت للمقام، ولم يعد بحاجة بعد الآن إلى التنقل بين (مقهى ريش)، و(أتيلييه القاهرة)، أو(دار الأدباء). عرف الجنوبى أخيراً معنى الاستقرار فى مكان يملكه ولو كان قبرا يعلوه شاهد يحمل اسمه كإثبات لملكية لن ينازعه أحد عليها مثلما فعلوا بإرثه وهو صغير بعد وفاة أبيه. هذا المرتحل الأبدى الذى تعود أن يمشى متخففا من كل متاع الدنيا، يقاسم أصدقاءه غرفاتهم وطعامهم وكتبهم. ثم يمضى لا يحمل غير قلبه المفعم بالتمرد على زخرف الحياة الزائف، تاركاً أوراقه وكتبه، وربما ملابس لم يحرص على تملكها يوما. ذلك الجنوبى المنتمى إلى الشوارع والأرصفة والطرقات، والذى جاء خبر نعيه فى أخبار اليوم لا إلى أهله وأصدقائه، بل جاء النعى بالخط العريض موجها إلى من كان ينتمى إليهم: « يا شوارع القاهرة مات أمل دنقل» . وبقدر ما كان نعيا من المفترض أنه لميت فإنه كان إثباتا علنيا لنجاح أمل دنقل فى غزوه للقاهرة الذى انتواه عند ارتحاله إليها. فعندما خرج من قنا إلى القاهرة اعتبره خروجا من القمقم، أو كأنه خروج من الظل إلى النور، بحثا عن المعرفة بعد أن ضاق بالقرية لضحالة ما توفره من التحام وتلاقح معرفى . الجنوبى الذى اختار أن يكون هو، لا ما يريده الآخرون أو ما يتوقعه الآخرون منه، هاجر الى المدينة بحثا عن المعرفة، لا يحمل غير شعر وقلب حر يأبى القيد، لا تهمه الرموز والأسماء قدر اهتمامه بمفهوم الحرية. تذكر زوجته الناقدة عبلة الروينى فى كتابها «الجنوبى» كيف أنه قرأ لها قصيدته (خطاب غير تاريخى على قبر صلاح الدين) فردت: لا أستطيع أن أعجب بقصيدة تدين عبد الناصر. فيجيبها: (إننى لا أكره عبد الناصر، ولكن فى تقديرى دائماً أن المناخ الذى يعتقل كاتباً أو مفكراً لا يصح أن أنتمى إليه أو أدافع عنه، إن قضيتى ليست عن عبد الناصر حتى لو أحببته، ولكن قضيتى دائماً هى الحرية).رأى أمل دنقل فى الأشياء العادية، والمواقف المعاشة اليومية، والأحداث الجارية مالم يره غيره، فجاء تعبيره وترجمته لها مغايرا ولافتا لأنظار الكبار من أمثال الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى الذى قال عنه: « (....وكذلك اهتم بالموضوعات التى اهتممت بها، لكنه أبدع فيها إبداعا خاصا، مثلا عندما أقرأ قصائده عن القاهرة أحسده وأتمنى لو كنت كتبت هذه القصائد، وأيضا قصائده عن الإسكندرية وخصوصا عن البحر أحسده عليها وأتمنى لو كتبت هذه القصائد، لأننى أحب البحر ولم أكتب عنه كما كتب أمل).ما زال الجنوبى يتجسد فى كلماته الباقية ما بقى صوت يدعو إلى الحرية والتحرر من كل القيود. فصوته يتردد يقتسم معنا الكعكة الحجرية، يعيد إحياء زرقاء اليمامة والخنساء وعنترة والحجاج وقطر الندى واسبارتكوس وسيزيف والإسكندر وروما وقرطاج على طريقته، يستدعى الماضى يستنسخ منه وعليه حاضرا أعياه بضعفه وتقهقره نحو عصور الجهل والظلام الفكرى . يعقد صلحا مع التراث الذى رأى البعض فيه جاهلية ورأى فيه الجنوبى الأمل فى الانطلاق بالقصيدة نحو المقاومة فى وقت لم تكن هناك أحزاب معارضة ولا أحزاب مستقلة. انطلق ليؤسس حركة مقاومة ينخرط فيها أفراد الشعب البسيط والطلبة الذين رددوا قصائده فى تجمعاتهم ووقفاتهم. الجنوبى الذى حرص على ألا يقع فى العشق الذى قد يربطه بأرض يقف عليها عزيز قد يتألم لفقده، أصبح عاشقا رغم أنفه. ولكن روح المقاومة التى سادت أشعاره ألقت بغيومها على علاقته برفيقة حياته عبلة الروينى التى كتب لها»: لو لم أكن أحبك كثيراً، لما تحمّلتُ حساسيتك لحظةً واحدة. تقولين دائماً عنى ما أدهش كثيراً عند سماعه. أحياناً أنا ماكر. وأحياناً أنا ذكى. رغم أننى لا أحتاج إلى المكر أو الذكاء فى التعامل معك، لأنّ الحبّ وسادة فى غرفة مقفلة أستريح فيها على سجيتى».لم يكن الجنوبى يخشى الموت الذى رآه دوما كحقيقة وحيدة فى الحياة . بل كان الموت فى نظره هو الحرمان من الحركة والتفاعل ، وهذا ما حدث له عندما اشتد عليه المرض وعجز عن تحريك جسده. لم يستسغ أن يمتص الحياة من أنبوب جلوكوز وهو طريح الفراش لا يقدر على الكتابة التى مثلت له الروح والوجود. وعندما عجز عن الكتابة، وأصبح جسده عبئا لا يملك السيطرة عليه، استشعر حتمية الرحيل. فكان خروجه الأخير خروجا هادئا من قمقم الحياة إلى براح الكون الذى ينتظر الباحث عن الحقيقة وأوجهها الغائبة
انتصار عبد المنعم.
مجلة أكتوبر العدد1735