تحتفي المجموعة القصصية (شمس) للقاص والروائي الكويتي طالب الرفاعي بالمكان وتجعله بطلا تحوم حوله وعنه حكايا لأبطال يتحركون في حيز مكاني محلي ، ويظهر هذا الحيز كمحاولة للهروب من الواقع المتحول الذي يستنكره الرفاعي ، وأحيانا أخرى كتعبيرعن تلك العلاقة الجدلية بين ما كان وماهو كائن قبل وبعد طفرة ارتفاع أسعار النفط . لجأ الرفاعي إلى تقديم البيئة الكويتية ، وركز على الأماكن التي يستحضر بها الذكريات ، وجعل مسرح الأحداث التي تظهر عليه تلك الذكريات محدودا ، لا يتعدى كثيرا حيز المدينة ، الحي ، الشارع ، المنزل ، الغرفة ، الخيمة ، المكتبة ، جميعها تمثل حدود العالم الحسي الذي تعيشه الشخصية كواقع آني ، ثم يضيف عليه الصبغة المحلية الكويتية ، مثلما فعل نجيب محفوظ في اختياره للأماكن التي تناسب شخصياته التي تفوح منها نكهة الحارة المصرية .ومثلما إهتم طالب الرفاعي بالمكان في رواياته( رائحة البحر، ظل الشمس وسمر كلمات ) وجعل أحداثها تنتقل بين شوارع الكويت وحاراتها ومطاعمها، محتفيا بالبحر بشكل خاص ، نجد أنه في (شمس) جعل من الشويخ ، قصر السلام ، شارع الخليج العربي ، والأبراج الثلاثة التي تقف في مواجهة البحر ، ومطعم ميس الغانم أماكن يستخدمها ليستحضر الذكريات ، ثم ينسج عليها قصصه التي ترصد العلاقات الاجتماعية المتشظية ، وميكنة حياة البشر .أنسنة الأماكن والأشياء سمة يرتكز عليها الرفاعي في اسلوب إسقاطي، ليأتي نقد الواقع من هذا الفضاء المكاني المحيط بالإنسان ذاته ، فيتحول المكان من مجرد مساحة جغرافية ساكنة إلى كائن حي ، بل إلى شخصية محورية تشعر وتتفاعل مع الواقع ومع باقي شخوص القصة . في (ليال) تتحول أبراج الكويت الشهيرة التي صممها المهندسان الدنماركيان سون ليندسورم وميلن بجورن على شكل مرش العطر التراثي الكويتي ،إلى عائلة مكونة من البرج الأصغر كإبن ، والبرج الأكبر كرب الأسرة لأهميته ، بما يحويه من مطعم دوار أو الكرة الكاشفة التي تكشف الكويت لزوارها ، والبرج الأوسط الذي يمثل الأم الحبلى بما يحمله من خزان للمياه في أوسطه والتي تمثل الجانب المحافظ في المجتمع . البرج الاصغر يترك مكانه ليتجول بمفرده يرصد ما طرأ على المجتمع من ظواهر حديثة من استقدام للأيدي العاملة الأسيوية ، وفساد إداري ، وادمان بعض الشباب للمخدرات ، وتغير المنظور القيمي وظهور دور المسنين كحل لعقوق الأبناء، البرج الأصغر تتلبسه مشاعر الحزن فيعود لمكانه محاصرا خلف أسيجة تمنع فراره مرة أخرى . وفي ( الواجهة) يبدو البحر كمكان وصديق ( عجوز حزين ذو رأس شائب وصدر عار ومئزر مبلل يستر نصفه الأسفل) يتحدث مع ناصر الشخصية البشرية ، يشكو البحر ، يعتب على أهل الكويت نسيانهم له وانشغالهم بالنفط والدينار، «هجرني أهل الديرة. أداروا وجوههم عني، خطفهم النفط الأسود، وألهاهم الدينار!» البحر يبكي أيام الصيد ، وعودة الصيادين ، ورائحة الحناء التي تفوح من أجساد النساء المتلهفة لعناق القادمين ، يشكو البحرغابات الخرسانة التي غزت الشاطئ وأخفت وجهه الذي ما عاد باسما كما كان. ويظهر (المحل ) كمكان يلفه صوت مكيف رتيب ، ومانيكان مصقول بملابس عارية ، يفتح آفاقا من الأخيلة الليلية ( مانيكان) ، ويصبح المكان هلاميا لا يفرق بين العالم وواجهة المحل الذي تغادره المانيكان لتتجول بين البشر ، في إشارة ربما لتحول البشر إلى أقنعة ، أو إلى أن الحياة ذاتها تحولت إلى واجهة محل ، تعتمد العلاقات فيها على شاشة وجهاز تحكم عن بعد للتواصل مع الجميع (شاشة) .ويظهر المكان كتميمة يتطهر بها وعندها عثمان الذي تكالبت عليه أمراض الحضارة الحديثة فانهكته جسدا وروحا ، ولم يكن هذا المكان غير البحر رمز التطهر والخلاص ، على شاطئ البحر جاء الاطباء يجرون لعثمان عملية التطهير (علي السيف) ، ويتناهى إلى سمعه هدير الموج مختلطا بصوت البحارة يؤدون (الخطفة) ، والطبيب يستأصل مابدا له من جسد عثمان ، وبالخلفية يتردد صوت المطرب الشعبي عوض دوخي مبتهلا (يالله يا لله يا لله سيدي الكريم ...هولو سيدي) ويقرر (الرفاعي) أن الأحبال الصوتية لا داعي لها مشيرا إلى تقلص مساحة الحرية التي من الممكن أن يتحرك فيها (عثمان) دون أن يصاب بالأذى من أي جهة معنية (لا داعي للكلام هكذا أسلم) ، ويحذف الرفاعي المسافة بين الواقعي والمتخيّل ، فنرى ونسمع تهاويم لا تفرق بين طبيعة المكان الآني ، وما كان عليه سابقا ، ليجعل الواقع متخيّلاً ، والمتخيّل ملموسا في تداخل للزمن والمكان.وتظهر الخيمة كمكان يجمع كل أضاد الحياة ، نقابل فيها الراوي التقليدي للحكايا ، ولكنه في جو من الفانتازيا يستخدم كل معطيات الحضارة من ستالايت وهواتف محمولة ، تحيلنا إلى المنظومة المستحدثة التي إقترن فيها رأس المال بوسائل الإعلام.وربما يكون المكان غرفة ( ليلة باردة) (ليلة أخرى) ، ولكن تلك المساحة المكانية المحدودة حوت بين جنباتها صور لأحداث تفوق هذا الحيز ، مثلما كان في غرفة (فنجان شاي) لنجيب محفوظ ، حيث رأى الرجل القابع على السرير كل أحداث الدنيا تدور في غرفته أمام عينيه. اهتم الرفاعي أيضا بالغربة المكانية وغربة الآخر (تحت الشمس) ، غربة تلفح عمر أبو اسماعيل ليتضور كدا وألما من مغترب مثله ، يتصيد فرصة لطرده من العمل ، ولا يجد أبو اسماعيل غير الموت كمكان افتراضي يتخلص فيه من من حصار رئيسه في العمل .وغربة زياد التي يمتطي فيها ساقية العمل التي لا تترك له فرصة ليجتمع بزوجته (ليلة أخرى) ، وتمضي الليلة تلو الاخرى ، وزياد مابين حاجته لأحضان هناء في نهاية يوم من أيام صراعه مع الحياة ، واستيقاظه في اليوم التالي على صوت المنبه دون أن يتحابا ، ليأخذ دوره مجددا في الحياة التي لا تكف عن دورانها ليوفر احتياجات أسرته التي تغرب من أجل تأمينها .وقد يكون المكان مجرد لوحة فنية تسكنها سمكة سوداء تمل حياة الرتابة فتغادرها ، ترفض الحياة الميكانيكية التي غرق فيها الإنسان الذي نسي بشريته ، ليعتبر يوم عطلته يوم عذاب لا يوم راحة واسترخاء (سمكة سوداء) ، وانحصرت المتعة فيها في سيجارة وعري كامل يمارسه بين جدران شقته كنوع من التغيير والحرية .إصرار الرفاعي على أن يكون البطل هو المكان المتمثل في الكويت ببحرها وحاراتها وشوارعها ، يعطينا انطباعا بأنه يؤسس لنفسه مكانا بجوار ماركيز ، ومحفوظ ، وعبدالرحمن منيف ، وديكنز ، وأمين صالح ، في تركيزهم على محلية الفضاء المكاني الذي تتجول فيه شخوصهم الروائية والقصصية ، وحرصهم على تأصيل بيئتهم المحلية لتكون انطلاقة نحو العالمية ، ولذلك كان من الطبيعي أن نعيش محلية الفضاء المكاني الذي يتحرك فيه طالب الرفاعي ونتنفس معه رائحة البحر
انتصار عبد المنعم
مجـلة نـــزوى العمــــانيـــة العـــدد59
No comments:
Post a Comment