لم تكن علاقة رستم كيلانى بأستاذه الرائد محمود تيمور مجرد علاقة تأثر بأسلوب الكتابة أو بالنمط الواقعى فى السرد، بل كانت استلهاما كاملا لفكرة واحدة دارت حولها مجمل أعماله القصصية التى طغى عليها الجانب الاجتماعى الإنسانى. فما بين الأستاذ والتلميذ إرث لا ينضب ولا يحيد عن رسالة الأدب التى كانت فى اعتقادهما هدفا أسمى ومطمحا يجب أن يسير عليه وفى هداه الأدباء والمثقفون. تتلمذ رستم كيلانى على يد تيمور وآمن مثله بأن للأدب رسالة اصلاحية عظيمة قبل أن يكون متعة للكاتب والقارئ لا يصلح معها سوى الواقعية فى التناول:«لقد عاهدت نفسى أن أسير على خطاه فى إحياء الأدب الإنسانى الثابت الذى نادى به فى مدرسته الفنية «الاتباعية» الأصيلة التى تؤمن بأن الأدب لابد أن يكون هادفا، وأن المجتمع الأخلاقى الذى يسير فى طريق البناء، إذا أراد الأديب أن يعبر عنه فنيا، فلا وسيلة له سوى (الواقعية الواضحة،الفاضلة،البناءة).وهكذا جاءت أعمال رستم كيلانى تحمل نزعة تقويمة إصلاحية مثل رسالة الأنبياء فى مجتمعاتهم التى أرسلوا إليها، وهذا ما قد يراها الحداثيون اليوم شيئا كلاسيكيا مملا بعد أن تشبعوا بسيل الكتابات المتنوعة فى أساليب السرد وفى موضوعاتها التى تعكس الظاهرة الاجتماعية كما هى بقسوتها وفجاجتها، بل أيضا بمفرداتها الغريبة المستحدثة. وكل هذا يغاير تماما العالم الكلاسيكى النظيف الطاهر الذى اهتم به كيلانى مركزا فيه على النهايات السعيدة التى تنتصر فيها دوما قيم الخير والجمال الفطرية فى الإنسان. كتب رستم القصة الإنسانية فى بساطة وسلاسة لتحمل مشاعره وأفكاره ككاتب يرى أن الكتابة فعل تطهر وتطهير وارشاد، وأن الكاتب ليس إلها يسكن الأبراج العاجية، بل هو كاتب انسان من لحم ودم يرى فى الآخر مهما بعدت المسافة بينهما انسانا يستحق الاحترام والاهتمام، وهذا ما تجلى فى أول معرفة لى برستم كيلانى أديبا وانسانا، ففى عام 1988، كانت مفاجأة غير متوقعة أن يحمل لى البريد مظروفا أنيقا به مجموعة «زوايا الحياة» لكاتب كبير مثله. تعجبت كيف يهتم،لا ليرسل ردا مقتضبا كغيره من الأدباء ساكنى صفحات الجرائد والمجلات وأغلفة اصداراتهم لا يتجاوزونها، بل ليرسل كتابا وعليه توقيعه واهداءً باسم فتاة صغيرة تعيش على ساحل البحر، فى مدينة نائية لم يكن اسمها قد ظهرعلى خارطة مصر؟ وعندما قرأت ما كتبه عنه الرائد الكبير محمود تيمور فى مقدمة المجموعة القصصية “زوايا الحياة” الصادرة عن دار المعارف، رابطا بين أعماله وشخصيته، أيقنت أنى أمام قامة كبيرة قلبا وقالبا :»... قصصه تتميز بشفافية تنم عن نفس خيرة تنطوى على كرم ونبالة وإشفاق.تقرأ له القصة، فتحس بأنها وجبة من غذاء فنى، غذاء صحى.. النغمة فى إنتاج رستم كيلانى القصصى نغمة هادئة، تهز ولا تزعج، وتؤثر ولا تثير..كأنها نسمات الأصيل إبان الربيع.. أدب رستم كيلانى هو مرآته.. فإذا رأيته عرفت ماذا هو قائل لك حين يكتب، وإذا قرأت له تمثل لك شخصه، كأنك تراه.فى أعماله مثل مجموعة “زوايا الحياة” كأنموذج، رصد كيلانى بعض المواقف والمشاكل الحياتية الانسانية الخالصة، وعبر عنها بسرد مباشر فى قمة الواقعية بعيدا عن الرمز الذى قد يعيق وصول رسالته الإصلاحية إلى المتلقى العادى الذى يتوقع أن يرى فى العمل الأدبى انعكاسا صريحا ومباشرا لما يحياه من متاعب واحباطات، ويأمل أن يرى على الورق - كما على شاشة السينما - انتصار الخيرعلى الشر فى النهاية، كتعويض وقتى وهمى يريح مَن يحزنهم رؤية الخير مهزوما فى الواقع المعاش وفى العالم المتخيل أيضا. لم يهتم كيلانى بعنصر الإدهاش القائم على المغايرة للمألوف الذى يميز مجمل الأعمال الأدبية الحديثة التى تدور فى تيه الحداثة بمشاكلها وارهاصاتها على كل الأصعدة. بحيث لم تعد الكتابة اليوم انعكاسا لشخصية الكاتب أو حياته هو، قدر ترجمتها للواقع الذى يعيشه الكاتب، وما قد يكون فى أحيان كثيرة مفروضا عليه قسرا.يكتب رستم كيلانى بعين تجول فى خبايا نفوس البشر وبقلم مخلص لأستاذه تيمور الذى أورثه منهجا أخلاقيا صاغ منه رسالته الأدبية المقدسة:(تعلمت أن الأدب فى أبسط تعريف هو التعبير عن الحياة. تعلمت أن الأديب إنما هو إنسان يجب أن يتحلى بالاخلاق قبل كل شىء. تعلمت أن الكتابة شعور بالمسئولية، ودراسة، وأصول، وعلم إلى جانب الموهبة الشخصية. تعلمت أن الفن الصادق هو الفن الذى يجد له الناس على اختلاف ألوانهم، وتفاوت مداركهم صدى فى الأفئدة. وتجاوبا فى المشاعر. تعلمت منه الدقة فى اختيار اللفظ المناسب، وجمال العبارة، وتناسق الجمل، وكانت هذه الدقة من خير مزاياه، وقد عرف بها. تعلمت أن الكاتب لايكثر من الكتابة إكثاره من القراءة، بل ولايقسم وقته بينهما بالسوية.. فإن إدمان القراءة للأعمال الفنية خليق أن يذكى حس الكاتب، ويرهف ذوقه، ويجلو كوامن مواهبه، ويهز القلم فى يده. تعلمت منه أن أحذر أن يهزنى الثناء إذا كُتب لبعض أعمالى التوفيق والنجاح حتى لا أظن أننى قد بلغت المني، وفصل الخطاب، وحتى لايذهب بى الغرور إلى أننى قد ودعت عهد التلمذة, وغنيت عن الدرس والاضطلاع. تعلمت أن الأديب الفنان مرآة للحياة، مرآة للمجتمع، مرآة للإنسانية فى محيطها الواسع، وآفاقها الرحيبة. تعلمت أن الكاتب يجب أن يعيش فى قصصه ويتلبس بالشخصية التى أخذها لمعالجته. تعلمت أن القصة عامل من عوامل التحبيب فى الخير، والتنفير من الشر، ولون من ألوان الدعوة إلى الحق، والنهى عن الباطل. تعلمت أن الأسلوب وسيلة لابلاغ الفكرة. تعلمت منه أن الأدب رسالة اجتماعية، فيجب أن يعكس صورة المجتمع الذى نعيش فيه. تعلمت أن الكاتب إن وجد فى نفسه حرارة الاستجابة للكتابة فيكتب، وإلا فأمسك. ولايفرض على نفسه شيئا).هكذا كان الأستاذ، ولذلك فهذا هو التلميذ الذى قال عنه أستاذه:(أكبر ظنى أن رستم كيلانى فى كل مرة يعتزم فيها الكتابة، يبادر قبل أن يمسك بالقلم، فيتوضأ ويصلى ركعتين، ثم يقول:(اللهم إنى كاتب
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1737!).