Saturday, August 25, 2007

منير عتيبة والرسم بالكلمات


منير عتيبة والرسم بالكلمات
( مجموعة كسر الحزن القصصية)

عندما تبدأ في القراءة تشعر أنك أمام لوحة فنية و مع كل كلمة يتشكل جزء فيها وتشم رائحة الألوان الزيتية التي مازالت تقطر من فرشاة منير عتيبة لا تدري أهو يرسم أم يكتب فاللفظ عنده له صورة وصوت ورائحة وترى الطبيعة الخضراء وجمالها وألوانها وتقلباتها وتشاهد أشخاصاً يتحركون ويعشقون ويتحدون الحزن في رقصة الحياة الأبدية وفي رسمه للوحة نجد إسقاطا درامياً رائعاً لمشاكل الوطن الكلية والمفتتة فالصورة عند عتيبة لها معنى يتسلل إليك وأنت لا تدري ولا تملك إلا أن تنفعل مع كل صورة وتهتف مع خلود (حط الشطة على المربى اسرائيل لازم تتربى

الخطوط الرئيسة في اللوحة

المشهد القريب في اللوحة هو لترعة المحمودية التي تتموج بهدوء فضي –حتى الهدوء صار له لون في اللوحة- وفوقها القمر الذي يضيء المكان بسخاء غير معهود.
ونرى المعدية التي ولت أيامها وسوف تختفي حين يكتمل بناء الكوبري.
ترى عم حسن يجدف بيديه متشبثاً بمجدافه كأنه يقبض على عمره الذي قضاه على تلك المعدية وتشعر بالعلاقة بين الجماد والأحياء فضربة المدرة للماء كأنها طعنة في صدر عم حسن تكاد تحس بها وتشعر بنفس النغزة التي تدلف إلى صدره العجوز وهو يتخيل أن لحمه ودمه الذي ذاب على المعدية سيستبدلونه بالخرسانة وهيكله العظمي الذي تآكل من تقلبات السن والطقس سيحل محله هيكلً من الحديد الصلد
على طرف اللوحة ترى زريبة الحيوانات فيها ثلاث بقرات وجاموستان وترى الحمار دعبس يغازل الحمارة مسعدة في رقصة للحياة ذات طبيعة خاصة.
وعلى البعد توجد القاعة البحرية وفيها الهانم.
وترى أيضاً شجرة الكافور وعليها يقف العصفور بجوار عشه ينظر إلى قبر والديه تحتها
وهناك غرفة هريدي وصفية وأم صفية ترمز للعالم وتناقضاته والمحاولات المستميتة لاقتناص لحظات من الفرح المسلوب في رقصة الحياة الخالدة التي تكسر جوانب الحزن فتفتته لتنجب وليدا من رحم عقيم إلا من هم في الزاوية البعيدة شجرة ما لا يميزها غير ورقة عليها بقعة دم قد تكون فرت من يد عم حسن أو من العصفور الذي أصابه النبل أو حتى من الأمازونيه السوداء.
على الأرض ترى أفرع الشجرة اليابسة التي تشبه المواطن الصالح في زمن التخنث.
وربما تكون منها العصا التي استخدمتها خلود في المظاهرة الخاصة بها التي أعادت بها الرجولة للمواطن الصالح الذي تنازل عن فحولته الفكرية والعقلية من أجل القبول به في عالم التخنث كعضو عامل ونشط.

وهنا وهناك كما هي الطبيعة دائما لابد أن تشاهد الحشرات فالصرصور له نظرة على الأمور كأنه يرمز للبشر المهمشين الذين يعيشون خارج اهتمام السادة أصحاب النعال المستوردة من إيطاليا.
والعنكبوت الذي كان يراقب نمو الذبابة منذ أن كانت صغيرة ولم يشعر بأي مشاعر تجاهها كأي كائن قد يألف من يشاركه المعيشة فترة من الزمن ولكنه كان يتحين الفرصة ليفترسها كأنه يرسم صورة الإنسان الذي يكمن لك حتى ما إذا أدرت له ظهرك انقض عليك ولكن حتى هذه الذبابة الصغيرة كان لها عند موتها ثورة على الوضع الذي فرضته عليها الحياة فإن كانت ولابد ميتة فليمت الطاغي معها تعلمنا درساً عسى أن تعيه العيون التي تنظر للوحة الشاملة في الكون.

وراء أشجار الكافور هناك صحراء النخيل الممتدة حيث نفرح بتقديم القرابين للسيد المنتصر ولا ندري على من انتصر ولماذا صوت الأسد القادم من بعيد حزين هكذا ولكنه وإن كان حزيناً فقد أفزع سيدنا المنتصر ولا ندري لما الإصرار هكذا على تطهير جباه الرعية ببوله المقدس.

كل ذلك كان مشهداً من المشاهد العديدة للقرية التي أعلنت أنها ستبقى على خارطة الزمن على الرغم من شهادة المؤرخين والمحللين العسكريين والمعلقين الرياضيين إلى جانب تلك الخطوط نجد بعض الخطوط الثانوية والتي تزيد من تفاصيل اللوحة الفنية وتشمل المناظر ذات البعد في الخلفية وبين الحشائش وأفرع الشجر الملقاة على الأرض مثل الديك الميت لشهرزاد التي ساقها حظها التعس مع شهريار إلى أن تواصل كلامها حتى أثناء نومه.
وفي البر الغربي توجد المقابر والنباتات الشوكية
-

الأصوات والرائحة واختيار الألوان

اللوحة التي رسمتها مجموعة كسر الحزن ليست صماء ولا بكماء فهي متحركة تتفاعل معها وتتفاعل معك تشم رائحة الكلمات وتسمع
أصواتها.
المشاعر قد تكون رمادية (إشارة) فالمحيط هنا لا يتسع لمشاعر بلون الورد لأنك تشم رائحة القمامة المادية المنبعثة من كوم القمامة والعفونة المنبعثة منه أو القمامة المعنوية التي تفوح من أخلاق المقدم المرتشي والصول اللذان يتلذذان بفرض الإتاوة على سائقي السرفيس والميكروباص وكذلك العفونة الصارخة في حديث الشاب مع الفتاة التي اتفق معها على مائة جنيه يحسبها ذات خبرة ولكننا نسمعه يساومها على نصف النقود لأنه اكتشف أنها عذراء.
هنا تتفاعل الطبيعة مع الحدث تتلون بلونه وتعطيه بعداً أعمق يذكرنا بما فعله توماس هاردي في روايته ( تيس أوف داربيفيل) حيث جعل اللون يعبر عن كل حدث وفي نفس الوقت يتفاعل مع المكان والأشخاص في أحوالهم المختلفة من الفرح والحزن وارتكابهم الخطيئة أو حتى في سعيهم للتطهر ولو على مذبح لإله وثني إنه الفرق بين تلك الفتاه التي تتخلى عن عفتها مقابل مائة جنيه وتلك الفتاة عند هاردي التي انتقمت ممن انتهكها وهي نائمة ودفعت حياتها ثمناً لذلك.

(الهدوء الفضي) لماء ترعة المحمودية يرمز إلى شعر عم حسن الأبيض الذي نعرف منه امتداد سنوات عمره التي قضاها على المعدية حتى تهالك مثلها.
أما في ( المطارد) نجد لون العين (عيناه بنيتان بياضهما صافي) ففي ألأخذ بالثأر يكون للقتل مذاق خاص عندما تنظر في عين القتيل لترى مقدار ألمه ويرى في نفس الوقت مدى تشفيك فيه في هذه اللحظة الأخيرة له إنه حديث العيون.
خيالات (ستهم القزحية) غامضة متعددة كألوان قوس قزح لها آمال وأحلام ولكنها بعد قليل لن تحقق منها شيئا وستختفي هي نفسها كما يختفي قوس قزح عند سطوع الشمس ولا يشفع له ألوانه وجماله ويبقى منه فقط مجرد وصف أو رسم على ورقة في كتاب كما حدث (لستهم) احترقت وتحولت قصة تروى.
وكما توهجت وهي حية كقوس قزح توهجت وهي تموت وتسمع صوتها الصارخ يثقب أذنيك ثم تتحول إلى قطعة فحم , لعب بالألوان برع فيه منير عتيبة صعد بك حتى لامست عيناك ألوان قوس قزح الرائعة ثم هوى بك على الأرض لتجد أن بين يديك مجرد قطعة فحم سوداء لها رائحة اللحم المحترق تكاد تنفذ إلى أنفك.

في (بقعة دم على شجرة) مجموعة من الألوان تخطها ريشة الكلمات الممزوجة باللون الأحمر كلون طبيعي للدم ولكنه اختلط بالأتربة فتحول للون الرمادي حتى مع أشعة الشمس الأغسطسية الساطعة تظل رمادية ولكنها تكتسب بعض اللمعان وهناك مجموعة ألوان تحدد معالم أوجه متناثرة وشفاه وعيون (شفه قانية- وجه مدور أبيض في أحمر-شعر ذهبي-طرحة سوداء).
كل ذلك يحكم قبضة اللون على محيط الصورة الكلي فيعطيها مزيداً من الثراء والعمق.
عندما نواجه روحاً فرت من العطب المتفشي في العالم فمن الحتمي أن تتبدل الألوان ولابد للرائحة العطرة أن تظهر (طارت) أجنحتها بلون الياسمين ورائحة فكرة حلمية.. فاحت الرائحة فملأت مسام الأرواح الخاوية , السماء ليست كأي سماء بل (السماء سحبها حليبية) والسطوح مرشوش بروح الندى
.
براءة خلود تجعلك تتخيل طعم المربى الممزوجة بالشطة فتجد اللعاب يجري لفمك تقززاً لجمعك النقيضين معا فلا تدري أيهما سيتغلب على الآخر الطعم الحلو للمربى أم الحار للشطة بينما تتطاير بعض الشطة لأنفك فتشعر بثورة فيها كتلك الثورة التي خلقتها خلود في هذا الجسد الذي ألف الخنوع والخضوع في قبره الوثير
.
رائحة الشواء للرأس المشوي الموضوع في (الطبق القاني السداسي الأضلاع) لماذا الطبق سداسي ؟ هل هو تلك النجمة السداسية التي هتفت ضدها خلود؟ والتي تسللت إلى حياتنا خلسة فلم نعد نميز بين ما نفقده وما نظن أنها منحته لنا ولونها القاني كلون الدم المتخثر الذي سال على الأرض الصفراء في وهم القتال للتحرير. طعم الدم القاني هذا صار مستساغاً رغم رائحته النتنة الواضحة ولكننا نواصل رحلة الغباء والبيع بلا ثمن (وواصلت المص).
نرفع الأيدي نسد بها آذاننا عندما يقفز اللون الأسود ليحتل الصحراء الجليدية ويصرخ بصوته الحاد المزعج كمنشار وقاس كطلقات رصاص (انطباع خاطئ
التحول
بعد رسم اللوحة الجميلة المتكاملة للطبيعة نجد البلدوزر يقتلع شجرة الكافور بأمر من الرجل القصير ذي الكرش الممتلئ الضخم الذي

سيحول الأرض الخضراء إلى مصنع للأدوات الصحية وفوراً نجد صورة شجرة الكافور تلاشت من الصورة الذهنية التي رسمناها في مخيلتنا ليحل محلها تواليت أو كومة من البلاط السيراميك.
حتى عزبة البلح فقدت أسمها وصار أسمها عزبة السيراميك ومن يتنازل عن أسمه لديه القابلية ليتنازل عن كل شيء فالرجل القصير الممتلئ كما أفلح في اقتلاع الشجر من جذوره أفلح في تجريف الفلاحين أنفسهم بل واقتلاع هويتهم التي كانت أعمق من جذور الشجرة الضاربة في أعماق الأرض وعندما جاء الأمر بالإقتلاع لم يكن لها من مغيث غير نظرات يائسة من طفل لا يرى فيها غير عش عصفوره اليتيم بينما الأب لا يرى أي فارق طالما أنه سيحصل على وظيفة مضمونة كحارس في مصنع السيد المنتفخ , فارتفعت الجذور فوق الأرض عارية كعشرات الأيدي تستجدي الرحمة في عالم بدأ يغير كل قيمه فالفلاحون الذين خلقوا من نفس طينة الأرض التي يقفون عليها تخلوا عن الفأس وباعوا الأرض وعملوا في المصانع أو اشتروا سيارات نصف نقل لنقل إنتاج المصنع أو افتتحوا محلات لبيع السيراميك.


مجموعة من الصور الزيتية قد نعتبرها نوعاً من التعبير عن التحول في التكوين الهيكلي للعالم العربي ونظرته الفردية الأحادية لمشاكله أو ربما نعتبرها رسم لمصر بعد الإنفتاح والتطبيع والتركيع.
اكتملت اللوحة تماما وعليها وزع منير شخصياته المتباينة والمتنوعة ووزع عليهم الأدوار بحرفية الفنان الذي يرسم بالريشة ودقة النحات الذي يعطي الحياة للصخر وهو مع ذلك لم يغرق في الطبيعة بحيث ينسى البشر ولم يتلاشى في بشريته بل مزج الإثنين معاً في لوحته وكأننا نرى فيها بشرية الموناليزا الغامضة وفي خلفيتها زهرة الخشخاش الساحرة.

1 comment:

Anonymous said...

أسلوب جميل وجديد في النقد
رائعة
يا انتصار
ناقدة واديبة