Sunday, September 13, 2009

"فـــي انتظــــار القــادم" وتيمــة الرحيــل


"في انتظار القادم" ؛مجموعة قصصية ، جاءت كل قصة فيها كجرعة مكثفة،أوكدفقة شعورية مركزة و متماسكة تتمثل فيها مقولة يوسف ادريس "إن القصة القصيرة مثل الرصاصة تنطلق نحو هدفها مباشرة " فلا كلمة زائدة أو بلا عمل، فمن أول استهلال مع أول كلمة تظهر معالم اسلوب "محمد عطية محمود" السردي البعيد عن الحشو والترهل . فهو لا يقدم القصة الحدوتة، بل القصة الرمز، ولكن الرمز في قصصه ليس من النوع الذي يحيل إلى عالم الماورائيات المستحيل ، بل إلى عالم التوحد مع الذات أو الحنين إلى روح الأصالة المفتقدة لتأتي قصصه مثل نفحات روحية وجدانية ، وكأنما تفوح منها رائحة البخور الذي يعيد الانسان إلى عبق ذكرياته البعيدة التي تحدد هويته.
يقدم "محمد عطية محمود" في مجموعته القصصية لقطات لأوجه الحياة التي لا تستقر ، يبرز فيها لحظات حياتية بعينها تعكس فكرته أو تيمته الأساسية وهي أننا كلنا على سفر، ومن على سفرفهو كالغريب وإن طال مقامه فهو عائد إلى مكان اقامته الدائمة حيث تنجلي كل الأحزان. ولذلك لا توجد قصة واحدة يسودها استقرار بيت هادئ أو أسرة وعائلة مكتملة . بل جاء الفضاء المكاني الذي تدورعليه احداث قصص المجموعة ليشير إلى فكرة السفر أو الرحيل وعدم الاستقرار مثل ( شرفة ،باب، مقهى ، عيادة طبيب، درجات السلم ، غرفة العناية المركزة، شركة توظيف ،حوض السفن، القبور، الطريق العام، طريق ليلي،طوار المحطة ، عربة أجرة ،الترام ، ظهر دولاب ، حديقة عامة، سلم البيت ، رصيف ، مكتب مدير العمل ،ميدان محطة الرمل ،أو حتى لا مكان كما في القصة الأخيرة ). أما السفر فقد جاء أولا : بمعناه المعتاد كانتقال مكاني ، أو المغادرة من مكان إلى آخر في قصص مثل (شنطة حليمة ،صباح قباري المنور، مخيلة البهجة ،اختراق ،هوية ، وردية ،المروحة، توحد ،نصف حلم نصف روح ، تجليات الخفة ،هيستريا ،نظرتان ،مغادرة ) . وثانيا :هناك بعض القصص التي تتناول تيمة السفر كرحيل أخير عن العالم وتشير إلى شخوصها الذين على وشك عبور حاجز العتمة (غيبوبة ، فواصل ضيقة ،افاقة). وثالثا :هناك السفر الداخلي أو التوحد مع الذات عن طريق حلم ، أو استرجاع ذكريات بعيدة تحضن حنينا لعوالم دفء فائتة (شرفة ،غصة ، اشتهاء ،طقوس للرؤية ،العام الثاني والعشرون).
وعلى التوازي هناك الشخصيات التي تستعد للسفر والرحيل والذي يجمع بينهم صفة مشتركة ؛ أنهم من الصف الثاني من البشر.فالمجموعة تتحدث عن حيوات الشخصيات السنيدة أو الكومبارس الذين لا أمل أمامهم في تقلد سيف البطولة، فقد همشتهم الحياة وأصدرت حكمها عليهم بالاقصاء كأمر واقع ، ذلك في الوقت الذي لا تستقيم فيه الحياة بدونهم فأبطال المجموعة على شاكلة (رجل مسن ،حليمة العجوز، قباري الحمال أو العتال، فني الغلايات الذي يعمل تمرجيا ، صاحبة القطط الوحيدة ، باحث عن وظيفة ، أب مقهور ماديا ،عامل الوردية الليلية ، امراة عجوز، راكبي الترام من مراهقين ومشاغبين، بائعة الحلوى ، لاعب مضطهد ،رجل بلا مأوى ...) وغيرهم . وما يجمع كل شخوص المجموعة أيضا ، أنهم جميعا في حالة ترقب ، في حالة انتظار للقادم ، الكل ينتظر تبدل الحال وانفراج الأزمة وهذا ما يشي به عنوان المجموعة نفسها .
وفي تقديمه لشخوص مجموعته، يهتم القاص بتقديم الشخصيات تقديما كاملا متناولا البعد الجسدي لكل شخصية واصفا التكوين الجسماني والطريقة التي يتحركون بها، بل لم يترك تعريجة على يد، أو بسمة أو تقطيبة على وجه إلا ووصفها بدقة .اهتم أيضا بالسمت الاجتماعي للشخصية واصفا العمل الذي تمتهنه وظروفها الاجتماعية التي تعايشها لتتمثل مقولة هنري جيمس "تنجلي الشخصية في تلك الأشياء التي يختارها أو ينبذها المرء". ثم يمتد اهتمامه إلى البعد النفسي لكل شخصية يرسم ما تعانيه من طموحات وآمال واصفا ما تسببه حالة الانتظار والترقب من توترات أومن خيبات للأمل أو من تداع للذكريات. وإذا نظرنا إلى اختيار أسماء شخوص المجموعة كطريقة لرسم الشخصية ، سنجد أن القاص لم يهتم في أغلب القصص بالأسماء لأن الحدث هو المهم وهو البطل ، ولكن في بعض القصص جاء استخدامه للأسماء ذا دلالة فمثلا "شنطة حليمة" جاء اسم حليمة المشتق من الحلم ليعبر عن حال حليمة الصابرة والمسامحة والجلدة ولربما الحالمة أيضا بتغير الحال .
بل إنه في وصفه يسقط على الجماد الصفات البشرية يخلق به تناغما بين الجماد والانسان في علاقة غير منفصلة ، ففي حالة الحنين يتفاعل الجماد مع الانسان و تتداخل ماهيات الأشياء "يستفيق الترام من سبات قصير...تتثاءب عجلاته ..".(نصف حلم ..نصف روح)
وعندما يصف الكاتب كل هذه الشخصيات والبيئة المحيطة بها، فهو يبدو وكأن ملامحهم قد حُفرت في ذهنه أوكأنه يضعهم أمامه يرسمهم بفرشاته الملونة المحبة لكل شخصية ، فهو يكتب كما قال هيمنجواي "أكتب عما تعرفه". ولذلك جاءت شخصياته حقيقية وبالتالي فما يحدث لها ومنها واقعي وحقيقي أيضا ، مما يؤدي إلى التأثير في القارئ الذي يستجيب متعاطفا مع الشخصية أو كارها لها .
ومن النظر إلى لغة القص في المجموعة نجدها فنية حيوية تحمل دلالات واضحة لترسم الموقف بجانبيه الخارجي والداخلي في نظرة استبطانية عميقة. بل يبدو وبوضوح تعاطف القاص مع شخصياته بل منخرطا معهم . ويتضح ذلك في حرصه على تنوع مستويات السرد في المجموعة بل وفي القصة الواحدة ، فهو تارة يبدأ بضمير الغائب ثم يلجأ إلى ضمير المخاطب في تنقلات غير مقحمة تزيد من حميمية العلاقة بين الكاتب وشخوصه ، في حين جاء استخدامه لضمير المتكلم قليلا بالمقارنة بين ضميري الغائب والمخاطب .
بقيت الإشارة إلى قصتين "تسلل" و "العام الثاني والعشرون" ففي "تسلل"تتجلى مقدرة القاص الفائقة في رسم الشخصية دون التصريح بلفظ واحد صريح ،ومن خلال الحدث الصغير تنجلي القصة الكبيرة للمؤامرة التاريخية. وتأتي "العام الثاني والعشرون" بضمير المتكلم ذاتية الجرح والحنين للغائب بجسده الحاضر بروحه لتغلق دفتر الحنين الذي فتحه محمد عطية محمود ب"شرفة" وأغلقه ب"العام الثاني والعشرون".
مجلة أكتوبر العدد1716

انتصار عبد المنعم

No comments: