Saturday, October 31, 2009

عن البهـجــة والكــآبة

عن البهجة والكآبة
يخطئ من يظن أن العيد يرتبط بالأحياء والحياة فقط ، ويخطئ من يظن أن السعادة لا تأتي إلا بين الأحبة والأصدقاء الأحياء في بيوتهم الفارهة المزينة بالستائر والديكورات ، وأصوات لعب الأطفال وأغاني ليلة العيد.
بل إننا لونظرنا إلى طقوس أعيادنا ، لوجدنا أن مظاهر الفرح والسعادة فيها ترتبط كثيرا بزيارة قبورالراحلين. ومعظم شعوبنا العربية متفقة بصورة أو أخرى على زيارة الموتى قبل الأحياء في صبيحة أول أيام العيد . تلتقي العائلات حول قبرالعزيزالراحل يؤدون طقوسا متشابهة تقريبا تلتقي جميعها في أنها تعبرعن تذكرهم للراحل وأنه ما زال بينهم . وفي أحيان كثيرة تكون زيارة القبور فرصة للتخلص من الكثير من الهموم يعود بعدها الزائرون وقد استراحوا وكأنهم وضعوا أحمالهم وراءهم تحت الأرض بصحبة ذويهم. وقد تكون الزيارة سببا في المزيد من الهم والحزن تضيع معها فرحة العيد المفترضة . فشكل القبر في حد ذاته قد يكون كئيبا قابضا للنفس لا يدل إلا على الفناء والعدم ، وقد يكون شكله مبهجا وكأنه جزء من حديقة عامة . وإذا تجاوزنا مقابر مثل الأهرامات، و توت عنخ آمون وحور محب وغيرهم ونظرنا نظرة سريعة إلى شكل المقابر والاهتمام بها ، لوجدنا أن هناك صلة وثيقة بين الثقافة السائدة في أي مجتمع، ومدى اهتمامه بالمقابر كمنزلة أخيرة ومنزل دائم للمنتقل من عالم إلى آخر .
فثقافة الصحراء التي تهيمن على الجزيرة العربية مثلا تعتبر القبرمجرد وسيلة للتخلص من جثة قابلة للتحلل والتعفن، ويبدو ذلك بصورة واضحة في مقابر مثل مقابر العود ، والنسيم في مدينة الرياض ، حيث لا يتعدى القبر كونه شق أو حفرة في أرض قاسية يلقى فيها المتوفي ، لا يميز واحد عن آخر ولا بلوحة عليها اسمه . حتى مقابر المصري المعاصر وعلى النقيض تماما من مقابرأسلافه الفراعنة الذين كانوا يهتمون بزخرفة مقابرهم والاعتناء بها ، أصبح الآن مجرد بناء أصم يعلو الأرض قليلا ، أو حفرة في أرض رملية وبعض نباتات الصبار التي تزيد من جو القتامة والكآبة ، أوغرف تختلف وضعية الراحلين فيها وتبقى الكآبة والقتامة ونباتات الصبار كعوامل مشتركة . وعلى الرغم من أن الموت واحد ، إلا أن هناك مقابر تبعث البهجة في نفوس زوارها عندما يرون الزهور والورود وشواهد البيوت الأرضية البيضاء منقوشا عليها أسماء الأحباء مثل مقابر الشاطبي بالأسكندرية ،حتى يخيل إليك أن أشخاصها يبادلونك الحديث من خلف الرخام الأنيق
وفي أمريكا والدول الأوروبية تبدو مناطق المقابر وكأنها متنزهات بكل الزهور والورود المزدانة بها حيث تختلف النظرة إلى القبر ليكون مكان إقامة ترتاح فيه أجساد الأحبة بعد عناء الحياة . ومن أشهر تلك المقابر مقبرة كنيسة الثالوث بنيويورك المدرجة ضمن المناطق المسجلة كأماكن تاريخية، حيث توجد جثامين أشهر الشخصيات التاريخية وسط بساط من الحشائش والزهور والأشجار . وفي مقابر العلمين حيث دفن جنود الكومونولث والألمان والإيطاليين نجد التباين أيضا . فما إن تدخل المبنى الخاص بمقابر الألمان ، حتى تشعر بالقشعريرة عندما ترى التوابيت الحجرية ذات الألوان القاتمة المائلة إلى الأسود أو البني الداكن ، فلا أثر للجمال هناك ، المشهد جامد خال من أي مظهر للجمال ، حتى في حجرة العبادة الصغيرة الملحقة لإيقاد الشموع وتقديم الهدايا الرمزية . ولكن الأمر على العكس تماما في مقابر الإيطاليين المشيدة على هيئة مبنى عال طولي ، يقود إليه ممر طويل محاط بسياج من الزهور والأشجار. وفي داخل المبنى الرخامي الأبيض تصطف رفات الجنود فوق بعضها خلف الحائط الرخامي ، لكل جندي قطعة خاصة به عليها اسمه وبياناته . وعندما توقع اسمك في سجل الزيارات الضخم ، تشعر وكأنك تكتب اهداءا لصديق على قيد الحياة يقف بالقرب منك ، لا ميت ساقه حظه لكي يموت ويدفن في صحراء بعيدة عن الوطن ويصبح ذكرى في كتاب تاريخ . ومن أجمل المقابر التي تبعث على البهجة في النفوس وتذكر بالوفاء والحب ، ضريح تاج محل الذي بناه الامبراطور المغولي شاه جيهان تخليدا وحبا لزوجته ممتاز محل ، والمحاط بالحدائق وأحواض المياه والممرات الخلابة المنظر التي تبعث البهجة والسعادة . وقد وصف الإمبراطور شاه جيهان نفسه هذا الضريح بقوله:
("إذا لجأ إلى هذا المكان شخص مثقل بالذنوب، فسيتطهر من ذنوبه، كالمغفورة له خطاياه. وإذا لجأ الآثم إلى هذا القصر، فستنمحي جميع خطاياه السابقة.") .
ومن المقابر التي تبعث نوعا من الراحة والهدوء والسكون في نفوس زائريها ، "مقابر البقيع" حيث يوجد خيرة صحابة رسول الله وبعض أزواجه رغم أنها مقابربسيطة جدا وخالية من أي زخرفة أو أي شئ دنيوي.
وتعد مقابر الأرقام من أكثر المقابركآبة وأقدرها على بث الحزن ، والتي أطلق عليها هذا الاسم لأنها تتخذ الأرقام بديلاً لأسماء الشهداء المقبورين فيها . وهي عبارة عن مدافن بسيطة محاطة بحجارة صغيرة الحجم وبدون شواهد، ومثبت فوق كل قبر لوحة معدنية تحمل رقماً معيناً، ولكل رقم ملف خاص محفوظ لدى الجهة الأمنية المسؤولة ويشمل المعلومات والبيانات الخاصة بكل شهيد و حياته مع السلطات الإسرائيلية التي لا تسمح بالزيارة ولا معرفة أصحاب الأرقام .
وتعتبر سياحة المقابر من أحدث الصيحات في عالم السياحة والتي بدأتها سان سالفادور بتنظيم رحلات منتظمة للقبور والأضرحة وخاصة في مدفن لوس ايلوستريس الشهير الذي يضم رفات العديد من الشخصيات السياسية ، والأثرياء ، والأدباء أمثال ارتورو امبروجي والشاعر البرتو ماسفيرير . وإن كانت القبور مكان سياحة من نوع جديد في سان سالفادور، فهي مكان إقامة دائمة ، ليس للميت فقط ، بل للأحياء أيضا ، حيث يشارك نصف مليون مصري من الأحياء موتاهم مكان اقامتهم الأبدية تخلصا من أزمة السكن التي جعلتهم يحبون ويتزوجون وينجبون ويحتفلون بأعيادهم وسط شواهد الأضرحة ، وعلى أصوات حفر القبور لا قرع الطبول.
مجلة أكتوبر العدد1723

4 comments:

EGYPT EYES said...

لن تفي الكلمات القبور حقها ولا يهمني إذا كان قبري سيكون مليئا بالورود أو الأشواك فقط عندما يحين وقت الحقيقه أتمنى أن أجد السلام
تحياتي وإحترامي

Anonymous said...

good blog good post

انـتــصار عــبـد الــمـنـعـم said...

شكرا على الدعوة يافنان
تعلم جيدا كم أحب خطوطك المميزة يا خالد
مودتي

Anonymous said...

أعتقد أن تغير شكل القبور في بلادنا العربية يعني كما قلت أنها أجساد ستتعفن وستتحلل ويجب التخلص منها ، أما كون الأوربيون يحتفون بمقابرهم فهذا ليس خاص برؤيتهم لجسد الميت ولا بطريقة حفظه ولكن هو خاص بالنظرة الجمالية التي يجب أن تكون عليها المدن بما فيها الجزء الخاص بالمقابر ، أما لكون الفناء هو الحقيقة الواضحة والنهاية المحتومة للأجسادفلا تفرق أشكال المقابر وطريقة الدفن مع الأموات بل هي تعكس النظرة الخاصة للأحياء بطبيعة الحياة والموت ، وإن كنت أفضل أن ينعم جسدي بالراحة الأبدية والسلام الدائم إلا أنني أميل أن يكون قبري تحفة جمالية ترتبط بأذهان الزائرين أي زائرين
فلنرقد جميعا بسلام إلى أبد الأبدين
خالد محمد الصاوي