جاء فوز رواية «ترمى بشرر» للروائى السعودى «عبده خال» بجائزة البوكر العربية فى دورتها الثالثة خير برهان على أنه كما أن «زامر الحى لا يطرب»، فأديب الحى أيضا لا يجوز أن يقرأ له أحد من بنى وطنه، حتى لو اعترف العالم كله به ولو حاز جوائز الأرض كلها، ولا يجوز له أن يقوم بطبع أعماله داخل وطنه بل عليه اللجوء إلى دار «الكفر» لتقوم بالمهمة غير المقدسة، وذلك حفاظا على طهارة عقول العباد من دنس الفكر والمعرفة، ولكن يجوز القراءة من وراء ساتر مثل شبكة الانترنت بتحميل الإصدارات الكترونيا لتجنب ملامسة الكتب الورقية الناقضة للوضوء!
لم يكن «عبده خال» أول كاتب يتم منع أعماله فى بلده، ولن يكون آخرهم طالما بقى الأديب تحت رحمة رجال الحسبة الذى يخضعون الأعمال الأدبية لأحكام لاهوتية من تفسيرهم واجتهادهم هم أنفسهم، وتبعا لأفقهم الذى لا يتجاوز موضع أنوفهم. فالشاعر الدكتور «غازى القصيبى» لم يشفع له منصبه كوزير ليمرر قصائده دون تعرضها لقرون استشعار تلتقط النوايا والمخبوء فى الصدور، ولم تشفع له قصيدة «تذكرى» التى لو توقف عندها لكفته:
( تذكرى..أن الجرح عندما يتعب من البكاء /يبدأ فى الغناء/تذكرى..أن الذى يحب الله لا يمكن أن يكره البشر).
عبده خال وغازى القصيبى وعبد الرحمن منيف وطالب الرفاعى، جميعهم كتبوا عكس الاتجاه السائد ليخضعوا جميعا تحت طائلة «قضاء الحسبة» وبصورة مشابهة لما تعرض له الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى الذى تم الحجز على أثاث بيته لصالح من ادعى عليه بسبب ما كتبه قلمه، ومؤخرا الروائية «سهير المصادفة» التى وبعد أكثر من خمسة أعوام على صدور روايتها «لهو الأبالسة» اكتشف فجأة أحدهم أنها رواية «قليلة الأدب» لتقع الكاتبة تحت سيف شخص يحتاج خمسة أعوام كاملة كى يفهم ويدرك قبل أن يعبر عن رأيه وعلى طريقة «المغامرون الخمسة» الباحثون عن الشهرة بكشف اللغز أو الكنز المخبوء.
ومن عجائب الشرق، أن رئيس لجنة تحكيم هذه الدورة؛ القاص والروائى الكويتى «طالب الرفاعى» خضعت أعماله أيضا للمنع والمصادرة فى بلده، حتى العدد 59 من مجلة نزوى العمانية التى نشرت قراءة فى مجموعته «شمس» تم منعه أيضا من التداول وتمت مصادرته. ولذلك كان «الرفاعى» صادقا جدا فى الحيثيات التى أعلنها بصفته رئيس لجنة تحكيم هذه الدورة عن سبب فوز رواية «ترمى بشرر» بالجائزة بأنها: «استكشاف رائع للعلاقة بين الشخص والدولة»، وأنها « تعطى للقاريء من خلال عيون بطلها صورة حية عن الحقيقة المروعة لعالم القصر المفرط فى كل شيء»، وأنها «ساخرة فاجعة تصور فظاعة تدمير البيئة وتدمير النفوس بالمتعة المطلقة بالسلطة والمتعة المطلقة بالثراء، وتقدم البوح الملتاع لمن أغوتهم أنوار القصر الفاحشة فاستسلموا إلى عبودية مختارة من النوع الحديث.» تأتى هذه الكلمات على لسان طالب الرفاعى بالذات لا لتصف رواية «خال» وحده بل لتصف أعماله هو أيضا، وتنسحب على أعمال عبد الرحمن منيف الذى تعد روايته «مدن الملح» خير تجسيد لكل ما تحدث عنه «عبده خال» فى مجمل رواياته بما فيها روايته الفائزة. «مدن الملح» تلك الرواية المميزة وبمقاييس عالمية، لم تأخذ نصف حظ رواية «بنات الرياض» من الاهتمام المبالغ فيه من وسائل الإعلام العالمية والذى جاء بفضل تغير خانة النوع للكاتب من «ذكر» إلى «أنثى». إذن هو التوقيت الذى لم يكن فى صالح عبد الرحمن منيف ولا فى صالح طالب الرفاعى. وجاء أخيرا «عبده خال» ليغرد فى نفس السرب الذى نادى بإصلاح الأحوال ومواجهة العيوب بالتحدث عنها وإظهارها لا بإخفائها والتستر عليها، هذا السرب الذى مهد له منذ أعوام عديدة الشاعر والناقد والمفكر «محمد حسن عواد» المولود فى الحجاز عام 1906، عندما أصدر كتاب» خواطر مصرحة» عام 1927 تضمن عدة مقالات انتقد فيها الواقع الأدبى والاجتماعى وحال الوطن فى دعوة صريحة وجريئة للتغيير البناء من خلال الإبداع وتجلى هذا فى قصيدته «جنون الناقدين»: «وطنى أجهل أم سبات/ أم غباء ما اعتراك؟ لا حس عندك، لا حفيظة، لا تحرك لا عراك/ تجرى الحوادث فى رباك/ وأنت كالجسر الطريح/ ويهزك المتشردون فلا تضج ولا تصيح/ انهض بأهلك والبنين». وتمر السنون وينهض البنون ويأتى «عبده خال» من أقصى الجنوب الغربى للمملكة السعودية ومن منطقة جازان، ويبدأ النشر عام 1984بمجموعة قصصية (حوار على بوابة الأرض) الصادرة عن نادى جازان الأدبى، ثم مجموعتيه (لا أحد) و(ليس هناك ما يبهج) عن مركز الحضارة العربية فى القاهرة عامى86 ــ 1988. ثم تواصلت اصداراته الإبداعية متجها إلى الرواية بدءا برواية (الموت يمر من هنا) ثم (مدن تأكل العشب)، فرواية (الطين)، ثم (الأيام لا تخبئ أحدا)، و(نباح)، و(فسوق) وأخيرا روايته الفائزة بالبوكر (ترمى بشرر). ولكن خال اشتهر كروائى وليس كقاص، وبرواياته «فسوق» و»مدن تأكل العشب» و»الموت يمر من هنا» و» ترمى بشرر» التى واجهت بعض النقد وقت صدورها لتكرار أو تشابه المواضيع والعوالم فى رواياته، وبعدها عن الهم الذاتى المباشر وانشغالها بالحديث عن طبقة معينة بغرض جذب الانتباه. ورغم الجائزة التى حازها «خال» ورغم عمله كصحفى، إلا أن كل ماكتبه مازال ممنوعا، فهو يكتب فى وطنه وينشر خارجه ليعرف عنه العالم ويجهله من يقف على بابه، وإذا عرفه أشار إليه ناعتا إياه بصفات تنصب كلها فى أنه يشوه صورة «الوطن» بكتاباته التى خلع عنها برقع الحياء ليظهر عيوبا برع الجميع لأجيال فى إنكارها، ثم لم يجدهم الإنكار نفعا، لتتفاقم الصغائر وتتحول إلى كبائر توشك أن تتحول إلى كوارث على شاكلة «بحيرة المسك
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1743».
لم يكن «عبده خال» أول كاتب يتم منع أعماله فى بلده، ولن يكون آخرهم طالما بقى الأديب تحت رحمة رجال الحسبة الذى يخضعون الأعمال الأدبية لأحكام لاهوتية من تفسيرهم واجتهادهم هم أنفسهم، وتبعا لأفقهم الذى لا يتجاوز موضع أنوفهم. فالشاعر الدكتور «غازى القصيبى» لم يشفع له منصبه كوزير ليمرر قصائده دون تعرضها لقرون استشعار تلتقط النوايا والمخبوء فى الصدور، ولم تشفع له قصيدة «تذكرى» التى لو توقف عندها لكفته:
( تذكرى..أن الجرح عندما يتعب من البكاء /يبدأ فى الغناء/تذكرى..أن الذى يحب الله لا يمكن أن يكره البشر).
عبده خال وغازى القصيبى وعبد الرحمن منيف وطالب الرفاعى، جميعهم كتبوا عكس الاتجاه السائد ليخضعوا جميعا تحت طائلة «قضاء الحسبة» وبصورة مشابهة لما تعرض له الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى الذى تم الحجز على أثاث بيته لصالح من ادعى عليه بسبب ما كتبه قلمه، ومؤخرا الروائية «سهير المصادفة» التى وبعد أكثر من خمسة أعوام على صدور روايتها «لهو الأبالسة» اكتشف فجأة أحدهم أنها رواية «قليلة الأدب» لتقع الكاتبة تحت سيف شخص يحتاج خمسة أعوام كاملة كى يفهم ويدرك قبل أن يعبر عن رأيه وعلى طريقة «المغامرون الخمسة» الباحثون عن الشهرة بكشف اللغز أو الكنز المخبوء.
ومن عجائب الشرق، أن رئيس لجنة تحكيم هذه الدورة؛ القاص والروائى الكويتى «طالب الرفاعى» خضعت أعماله أيضا للمنع والمصادرة فى بلده، حتى العدد 59 من مجلة نزوى العمانية التى نشرت قراءة فى مجموعته «شمس» تم منعه أيضا من التداول وتمت مصادرته. ولذلك كان «الرفاعى» صادقا جدا فى الحيثيات التى أعلنها بصفته رئيس لجنة تحكيم هذه الدورة عن سبب فوز رواية «ترمى بشرر» بالجائزة بأنها: «استكشاف رائع للعلاقة بين الشخص والدولة»، وأنها « تعطى للقاريء من خلال عيون بطلها صورة حية عن الحقيقة المروعة لعالم القصر المفرط فى كل شيء»، وأنها «ساخرة فاجعة تصور فظاعة تدمير البيئة وتدمير النفوس بالمتعة المطلقة بالسلطة والمتعة المطلقة بالثراء، وتقدم البوح الملتاع لمن أغوتهم أنوار القصر الفاحشة فاستسلموا إلى عبودية مختارة من النوع الحديث.» تأتى هذه الكلمات على لسان طالب الرفاعى بالذات لا لتصف رواية «خال» وحده بل لتصف أعماله هو أيضا، وتنسحب على أعمال عبد الرحمن منيف الذى تعد روايته «مدن الملح» خير تجسيد لكل ما تحدث عنه «عبده خال» فى مجمل رواياته بما فيها روايته الفائزة. «مدن الملح» تلك الرواية المميزة وبمقاييس عالمية، لم تأخذ نصف حظ رواية «بنات الرياض» من الاهتمام المبالغ فيه من وسائل الإعلام العالمية والذى جاء بفضل تغير خانة النوع للكاتب من «ذكر» إلى «أنثى». إذن هو التوقيت الذى لم يكن فى صالح عبد الرحمن منيف ولا فى صالح طالب الرفاعى. وجاء أخيرا «عبده خال» ليغرد فى نفس السرب الذى نادى بإصلاح الأحوال ومواجهة العيوب بالتحدث عنها وإظهارها لا بإخفائها والتستر عليها، هذا السرب الذى مهد له منذ أعوام عديدة الشاعر والناقد والمفكر «محمد حسن عواد» المولود فى الحجاز عام 1906، عندما أصدر كتاب» خواطر مصرحة» عام 1927 تضمن عدة مقالات انتقد فيها الواقع الأدبى والاجتماعى وحال الوطن فى دعوة صريحة وجريئة للتغيير البناء من خلال الإبداع وتجلى هذا فى قصيدته «جنون الناقدين»: «وطنى أجهل أم سبات/ أم غباء ما اعتراك؟ لا حس عندك، لا حفيظة، لا تحرك لا عراك/ تجرى الحوادث فى رباك/ وأنت كالجسر الطريح/ ويهزك المتشردون فلا تضج ولا تصيح/ انهض بأهلك والبنين». وتمر السنون وينهض البنون ويأتى «عبده خال» من أقصى الجنوب الغربى للمملكة السعودية ومن منطقة جازان، ويبدأ النشر عام 1984بمجموعة قصصية (حوار على بوابة الأرض) الصادرة عن نادى جازان الأدبى، ثم مجموعتيه (لا أحد) و(ليس هناك ما يبهج) عن مركز الحضارة العربية فى القاهرة عامى86 ــ 1988. ثم تواصلت اصداراته الإبداعية متجها إلى الرواية بدءا برواية (الموت يمر من هنا) ثم (مدن تأكل العشب)، فرواية (الطين)، ثم (الأيام لا تخبئ أحدا)، و(نباح)، و(فسوق) وأخيرا روايته الفائزة بالبوكر (ترمى بشرر). ولكن خال اشتهر كروائى وليس كقاص، وبرواياته «فسوق» و»مدن تأكل العشب» و»الموت يمر من هنا» و» ترمى بشرر» التى واجهت بعض النقد وقت صدورها لتكرار أو تشابه المواضيع والعوالم فى رواياته، وبعدها عن الهم الذاتى المباشر وانشغالها بالحديث عن طبقة معينة بغرض جذب الانتباه. ورغم الجائزة التى حازها «خال» ورغم عمله كصحفى، إلا أن كل ماكتبه مازال ممنوعا، فهو يكتب فى وطنه وينشر خارجه ليعرف عنه العالم ويجهله من يقف على بابه، وإذا عرفه أشار إليه ناعتا إياه بصفات تنصب كلها فى أنه يشوه صورة «الوطن» بكتاباته التى خلع عنها برقع الحياء ليظهر عيوبا برع الجميع لأجيال فى إنكارها، ثم لم يجدهم الإنكار نفعا، لتتفاقم الصغائر وتتحول إلى كبائر توشك أن تتحول إلى كوارث على شاكلة «بحيرة المسك
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1743».