لم يعد الإنسان في حاجة إلى الأسطورة بمعناها المتوارث من حيث كونها شكل من الأشكال الأدبية لجأ إليها القدامى لتفسير الأشياء المجهولة والظواهر الغير مفهومة من حولهم . فقد اشتملت الأسطورة المعروفة في بعض أوجهها على حكايا تهدف إلى تفسير ظواهر كونية أو غيرها مما لم يجدوا له تفسيرا منطقيا مثل أصل الكون ، الموت والحياة ، تعاقب الليل والنهار . بل إن الأسطورة تداخلت في سرد تاريخ الشعوب لتجتمع الخرافة مع التاريخ في محاولة قد تكون مقصودة من أجل إضفاء القداسة والهيبة على جنس بشري دون غيره ، أو حتى على طبقة معينة من البشر دون غيرهم . وكما يقول الشاعر الفرنسي دوبان : (الشعب الذي لا أساطير له يموت من البرد) .
فدفء الأسطورة كفيل بخلق نوع من الذاكرة الجماعية تقوم على الخيال المحض، أو خيال تولد من حقيقة صغيرة ثم توارت بعد ذلك الحقيقة في عباءة الخيال لتتحول إلى أسطورة لا نستطيع معرفة الجزء الحقيقي من الخيال المنسوج عليه .
ولكن اليوم وقد عرف الإنسان كل شئ عن الكون والوجود، أدرك أنه في رحلته الفكرية لفهم العالم وهو قابع في مكانه يتخيل آلهة الخير والشر وآلهة الظلام والنور، نسي العالم الحقيقي الممتد خارج حدود الحيز المكاني الضيق الذي سجن فيه نفسه بينما أعطى لفكره براح التخيل . أصبح الكون واضحا لا يحتاج تفسيرات غيبية ويبتعد الإنسان عن كل ما هو غيبي بما فيها الروحانيات ليغرق في ممارسات تندرج تحت مسميات مثل الواقعية والوجودية وغيرهما .
أدرك في النهاية وفي ذروة معرفته أنه لا يعرف نفسه .
وجد الانسان نفسه كعالم مجهول ، وشعر بضعفه البشري الذي يختلف تماما عن شخوص أساطيره الذين كانوا آلهة أوأنصاف الآلهة يتمتعون بالسطوة والقوة . انعكس كل هذا وبصورة واضحة في حركة الأدب الحديث الذي شهد تغيرا في مفهوم الأسطورة وطريقة تناولها بهدف خلق الأسطورة الشخصية لبشرعاديين ليسوا بآلهة ، بل هم بشر يحملون في دواخلهم كونا يموج بالأفكار والصراعات أدركها القائل : (وتحسب أنك جرمٌ صغير /وفيك انطوى العالم الأكبر) .
ولذلك نرى البطل في "دون كيخوتة" يسعى لاكتشاف العالم من حوله بنفسه وكأنه يخلق اسطورة الانسان العادي الذي يكتشف في النهاية أنه لا يعرف العالم ولا نفسه .وفي "الخيميائي" يسافر (سنتياغو) من مكان إلى آخر مثل دون كيخوتة باحثا عن الكنز المادي تحت سفح الهرم ليكتشف أن الكنز بداخله، فهو الأسطورة التي تستحق الخلود ، وهو من يصنع الأساطير ، وأن كل الظروف من صنيعة الانسان لا الآلهة التي شكلها في حكاياه وأعطاها قوة لم تكن لتكتسبها لولاه .
وهكذا ظهر البطل في الأدب الحديث بلا بطولة بل ظهرت هزائمه الداخلية . لم يعد البطل إلها أو شبه إله ، بل انسان مهزوم فصامي يعاني صراعات داخلية مثل مصطفى وبقية شخوص "تغريدة البجعة" أو محمود في "واحة الغروب" ،أو طارق وماجد في "لم تذكرهم نشرة الأخبار" . أو حتى مريض نفسي مثل هادي ونور في " مواقيت التعري" .
أدرك المبدعون أخيرا أن قدرة الانسان على العيش واستمراره في الحياة تُعد في حد ذاتها معجزة أو أسطورة .
لم يعد الانسان في حاجة لأسطورة متوهمة يختلقها بنفسه ، ولم يعد يهتم بالكون الخارجي قدر انشغاله بعالمه الداخلي المليء بالاحباطات حين لا يستطيع مواجهة الحاضر الذي يحيل المبدع إلى كتلة من التوتر قد تؤدي به الى الجنون أوالى الانتحار اعتراضا على واقع لا يتواءم مع طموحاته .
أدرك الأدباء والمبدعون أن الخروج إلى العالم واكتشافه أهم من السكون ، وهكذا ترك "رامبو" بيته وبلده وأشعاره وهو في أوج العبقرية والشهرة ليكتشف بنفسه العالم الحقيقي بالمغامرة والتجوال في العالم ليعيش أسطورته الحقيقية لا المخطوطة شعرا على الورق . وهكذا ترك "نيتشة" الجامعة واستقال ليكتشف العالم ويعيش حياة التشرد والضياع بمفهومنا القاصر، ولكنه كان يصنع اسطورته التي انجب منها رائعته "هكذا تكلم زرادشت" . وهكذا ترك الفنان المغربي "حميدو بن مسعود" وطنه ليبحث لنفسه عن أسطورة في فرنسا وهوليود ، بعكس الشاعر والمسرحي الفرنسي "جون جونيه "الذي اختار العرائش المغربية ليخلد فيها . بل إن الكثير من العظماء من الأدباء والشعراء والرسامين والموسيقيين أصيبوا بالجنون ، أو وصلوا حد الانتحار ليموتوا مثل أسطورة كما عاشوها مثل فان جوخ ، وشومان ، وتشايكوفسكي ،ومايكوفسكي، بودلير، همنجواي ، موباسان، فيرجينيا وولف، نيتشه، إدغار ألان بو حتى مارلين مونرو ومايكل جاكسون وغيرهم .
وفي أفضل الأحوال قد يلجأ المبدع إلى "أسطرة " أعماله بأن يبتكر شخصية أو شخصيات تكون محور أعمال متكررة أو سلسلة من الأعمال مثل لورنس داريل في "رباعية الاسكندرية" أو نجيب محفوظ في الثلاثية . أو لربما يلجأ المبدع إلى أسطرة اسمه الشخصي مثلما فعل توفيق الحكيم في "عصا الحكيم"، و" «حماري قال لي» ، ومن قبله الشاعر الإسباني "خُوان رانون خيمينث في "أنا وحماري". أيضا لجا المبدعون إلى اختراع شخصيات لافتة تعيش في أذهان القارئ حتى بعد أن ينتهي من القراءة مثل شخصية الولد الخشبي "نودي" التي ابتكرتها كاتبة الأطفال البريطانية "إينيد بلايتون"، وأيضا شخصيات " المغامرون الخمسة". وحديثا شخصية هاري بوتر للبريطانية "ج . ك. رولينج" ، و شخصية "فلفل" التي اخترعها القاص سمير الفيل وجعلها محور مجموعته القصصية ""صندل أحمر". وقد يقوم الكاتب "بأسطرة" ذاته ليأخذ دور البطولة في بعض أعماله بصفته وشخصه ككاتب مثلما فعل الأديب الجزائري "واسيني الأعرج" الذي جعل من نفسه بطلا في بعض أعماله كان آخرها رواية " أنثى السراب". وحتى في الفن نجد الأعمال الفنية التي حملت اسم العظيم اسماعيل يا سين ، وشخصية غوار الطوشي للسوري المبدع دريد لحام ولا ننسى "أبو العبد " اللبناني .وهكذا ظهرت الأسطورة الحداثية في الأدب والفن لتحمل مفهوم الخلود والبقاء للإنسان العادي بضعفه وقوته ، بنجاحه واخفاقه ومحاولته العودة إلى اعادة اكتشاف نفسه التي بين جنبيه . فما يفيد الانسان لو عرف العالم وجهل نفسه ؟ .
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1738
فدفء الأسطورة كفيل بخلق نوع من الذاكرة الجماعية تقوم على الخيال المحض، أو خيال تولد من حقيقة صغيرة ثم توارت بعد ذلك الحقيقة في عباءة الخيال لتتحول إلى أسطورة لا نستطيع معرفة الجزء الحقيقي من الخيال المنسوج عليه .
ولكن اليوم وقد عرف الإنسان كل شئ عن الكون والوجود، أدرك أنه في رحلته الفكرية لفهم العالم وهو قابع في مكانه يتخيل آلهة الخير والشر وآلهة الظلام والنور، نسي العالم الحقيقي الممتد خارج حدود الحيز المكاني الضيق الذي سجن فيه نفسه بينما أعطى لفكره براح التخيل . أصبح الكون واضحا لا يحتاج تفسيرات غيبية ويبتعد الإنسان عن كل ما هو غيبي بما فيها الروحانيات ليغرق في ممارسات تندرج تحت مسميات مثل الواقعية والوجودية وغيرهما .
أدرك في النهاية وفي ذروة معرفته أنه لا يعرف نفسه .
وجد الانسان نفسه كعالم مجهول ، وشعر بضعفه البشري الذي يختلف تماما عن شخوص أساطيره الذين كانوا آلهة أوأنصاف الآلهة يتمتعون بالسطوة والقوة . انعكس كل هذا وبصورة واضحة في حركة الأدب الحديث الذي شهد تغيرا في مفهوم الأسطورة وطريقة تناولها بهدف خلق الأسطورة الشخصية لبشرعاديين ليسوا بآلهة ، بل هم بشر يحملون في دواخلهم كونا يموج بالأفكار والصراعات أدركها القائل : (وتحسب أنك جرمٌ صغير /وفيك انطوى العالم الأكبر) .
ولذلك نرى البطل في "دون كيخوتة" يسعى لاكتشاف العالم من حوله بنفسه وكأنه يخلق اسطورة الانسان العادي الذي يكتشف في النهاية أنه لا يعرف العالم ولا نفسه .وفي "الخيميائي" يسافر (سنتياغو) من مكان إلى آخر مثل دون كيخوتة باحثا عن الكنز المادي تحت سفح الهرم ليكتشف أن الكنز بداخله، فهو الأسطورة التي تستحق الخلود ، وهو من يصنع الأساطير ، وأن كل الظروف من صنيعة الانسان لا الآلهة التي شكلها في حكاياه وأعطاها قوة لم تكن لتكتسبها لولاه .
وهكذا ظهر البطل في الأدب الحديث بلا بطولة بل ظهرت هزائمه الداخلية . لم يعد البطل إلها أو شبه إله ، بل انسان مهزوم فصامي يعاني صراعات داخلية مثل مصطفى وبقية شخوص "تغريدة البجعة" أو محمود في "واحة الغروب" ،أو طارق وماجد في "لم تذكرهم نشرة الأخبار" . أو حتى مريض نفسي مثل هادي ونور في " مواقيت التعري" .
أدرك المبدعون أخيرا أن قدرة الانسان على العيش واستمراره في الحياة تُعد في حد ذاتها معجزة أو أسطورة .
لم يعد الانسان في حاجة لأسطورة متوهمة يختلقها بنفسه ، ولم يعد يهتم بالكون الخارجي قدر انشغاله بعالمه الداخلي المليء بالاحباطات حين لا يستطيع مواجهة الحاضر الذي يحيل المبدع إلى كتلة من التوتر قد تؤدي به الى الجنون أوالى الانتحار اعتراضا على واقع لا يتواءم مع طموحاته .
أدرك الأدباء والمبدعون أن الخروج إلى العالم واكتشافه أهم من السكون ، وهكذا ترك "رامبو" بيته وبلده وأشعاره وهو في أوج العبقرية والشهرة ليكتشف بنفسه العالم الحقيقي بالمغامرة والتجوال في العالم ليعيش أسطورته الحقيقية لا المخطوطة شعرا على الورق . وهكذا ترك "نيتشة" الجامعة واستقال ليكتشف العالم ويعيش حياة التشرد والضياع بمفهومنا القاصر، ولكنه كان يصنع اسطورته التي انجب منها رائعته "هكذا تكلم زرادشت" . وهكذا ترك الفنان المغربي "حميدو بن مسعود" وطنه ليبحث لنفسه عن أسطورة في فرنسا وهوليود ، بعكس الشاعر والمسرحي الفرنسي "جون جونيه "الذي اختار العرائش المغربية ليخلد فيها . بل إن الكثير من العظماء من الأدباء والشعراء والرسامين والموسيقيين أصيبوا بالجنون ، أو وصلوا حد الانتحار ليموتوا مثل أسطورة كما عاشوها مثل فان جوخ ، وشومان ، وتشايكوفسكي ،ومايكوفسكي، بودلير، همنجواي ، موباسان، فيرجينيا وولف، نيتشه، إدغار ألان بو حتى مارلين مونرو ومايكل جاكسون وغيرهم .
وفي أفضل الأحوال قد يلجأ المبدع إلى "أسطرة " أعماله بأن يبتكر شخصية أو شخصيات تكون محور أعمال متكررة أو سلسلة من الأعمال مثل لورنس داريل في "رباعية الاسكندرية" أو نجيب محفوظ في الثلاثية . أو لربما يلجأ المبدع إلى أسطرة اسمه الشخصي مثلما فعل توفيق الحكيم في "عصا الحكيم"، و" «حماري قال لي» ، ومن قبله الشاعر الإسباني "خُوان رانون خيمينث في "أنا وحماري". أيضا لجا المبدعون إلى اختراع شخصيات لافتة تعيش في أذهان القارئ حتى بعد أن ينتهي من القراءة مثل شخصية الولد الخشبي "نودي" التي ابتكرتها كاتبة الأطفال البريطانية "إينيد بلايتون"، وأيضا شخصيات " المغامرون الخمسة". وحديثا شخصية هاري بوتر للبريطانية "ج . ك. رولينج" ، و شخصية "فلفل" التي اخترعها القاص سمير الفيل وجعلها محور مجموعته القصصية ""صندل أحمر". وقد يقوم الكاتب "بأسطرة" ذاته ليأخذ دور البطولة في بعض أعماله بصفته وشخصه ككاتب مثلما فعل الأديب الجزائري "واسيني الأعرج" الذي جعل من نفسه بطلا في بعض أعماله كان آخرها رواية " أنثى السراب". وحتى في الفن نجد الأعمال الفنية التي حملت اسم العظيم اسماعيل يا سين ، وشخصية غوار الطوشي للسوري المبدع دريد لحام ولا ننسى "أبو العبد " اللبناني .وهكذا ظهرت الأسطورة الحداثية في الأدب والفن لتحمل مفهوم الخلود والبقاء للإنسان العادي بضعفه وقوته ، بنجاحه واخفاقه ومحاولته العودة إلى اعادة اكتشاف نفسه التي بين جنبيه . فما يفيد الانسان لو عرف العالم وجهل نفسه ؟ .
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1738
No comments:
Post a Comment