Sunday, May 02, 2010

المناهج الدراسية والمواطنة

لا يخلو مجتمع من المجتمعات من تنوع يشمل لونه وجذوره وخلفياته الثقافية ودياناته ومعتقداته. وتعتمد قوة أى مجتمع أو دولة على مقدار ما تحققه من تجانس بين كل هذه التنويعات ضمن نسيج واحد تجتمع فيه كل الأطياف تحت لواء فكرة واحدة كبرى وهى «المواطنة» أى الانتماء لهذا الكيان الأكبر أو الدولة التى ينتسبون إليها، وهذا ما أدركه الغرب جيدا فنشأت اتحادات لدويلات أو ولايات أصبحت كيانات سياسية أو اقتصادية عظمى متجاوزة نقاط الاختلاف ومجتمعة تحت لواء هدف عام يسعى إليه الجميع وهم يدركون جيدا حقوقهم وواجباتهم. وعلى المستوى العربى فقد كان من حظ بلداننا العربية أنها فى فترة من الفترات تم احتلالها وتقسيمها بين دول عظمى تتحدث الانجليزية والفرنسية والايطالية والتركية، ولذلك عاشت فترات طويلة تواجه عدوا خارجيا بروح واحدة تنبع من فكرة «القومية» وظهرت أسماء لأبطال ورموز مثل عبد القادر الجزائرى وعمر المختار وجميلة بوحيرد وجمال عبد الناصر وجول جمال. ولم يكن أحد يقف ليسأل هل هذا البطل مصرى أم سورى، ليبى أم جزائرى؟ وفى داخل الدول نفسها لم يكن أحد يسأل رفيقه فى الهم هل هو صعيدى أم قاهرى، دمشقى أم حلبى، حوطى أم نجدى، بربرى أم مغاربى؟ الجميع كانوا يواجهون خطرا واحدا خارجيا، وكانت المناهج الدراسية فى خدمة فكرة القومية والمصير المشترك. وعندما انتهت الحركات التحررية وتحررت الأرض، كانت الكارثة أن حل الفراغ نتيجة تخلخل الفضاء من حول الجميع الذين اكتشفوا أنهم قد أفرغوا ما لديهم فبدأوا يتقهقرون داخل الحدود الضيقة للدول التى بدأت ترسم هويتها المستقلة ليس عن المستعمر وحسب، بل المستقل بعيدا عن رفقاء الأمس وتغيرت المناهج الدراسية بدورها لتركز على فكرة الفردية وتُقصى مبدأ المصير المشترك لمصلحة النعرات القبلية ولم يقتصر الأمر على المستوى العام بين الدول، بل بدأ الأفراد داخل المجتمع الواحد يلتفتون حولهم ليكتشفوا أن لون بشرة هذا الجار تختلف عن لونهم، وأن ذاك لا يذهب لنفس دار العبادة، وهذا يتحدث بلهجة مختلفة. ويكتشف الجميع أنهم يجهلون بعضهم البعض. ونتيجة الجهل بالآخر ظهرت محاولات عديدة لادعاء المعرفة أو للقفز على فكرة جهل الآخر بادعاء الأفضلية للذات والنقصان للغير، أو اطلاق النكات على بعض الجماعات تقليلا من شأنهم مثل الصعايدة والحوطيين والبرابرة والغجر وغيرهم. بدأ الجميع يمارسون نفس سياسات القهر والاقصاء التى كان يمارسها الأجنبى ضدهم، الجميع يريدون فرض السيطرة والرأى الواحد ووجهة النظر الواحدة. وكان من الطبيعى أن تظهر المشكلات العرقية والطائفية داخل مجتمعاتنا العربية، بل تعدى الأمر إلى أن يلجأ البعض إلى التنصل من هويته التى تنسبه للأرض التى ينتمى إليها كوطن ليتبنى فكرا أو معتقدا مستوردا يظن أنه طريقه إلى الخلاص والفوز، وفى نفس الوقت يمارس الحجر على فكر الآخرين حد الحكم عليهم بالكفر أو الالحاد أو الزندقة وغيرها من مسميات لا تدخل تحت حكم البشر ولا إدراكهم لصيرورة الأحداث الغيبية. وجاءت المناهج المدرسية أيضا لتعزز الانفصال بين أفراد المجتمع، فنظم التعليم تقوم على المنافسة والحفظ والتلقين وأن الجميع فى حالة منافسة فردية دائمة من أجل تحقيق انجاز فردى مما عمق من مفهوم الانفصال والتباعد بين أطياف المجتمع. بل إن المناهج نفسها لا تقدم مادة تتناول مفهوم «المواطنة» للطلاب لتزرع فيهم فكرة الانتماء لهذا الوطن الذى يعيشون فيه. حتى عندما كان فى مادة اسمها «تربية وطنية» جاءت كالمسخ فى السياق التعليمى كحصة من الممكن أن يستعيرها مدرس الرياضيات لإكمال منهجه الدراسى. ويزداد الداء فيتم فصل البنات عن البنين وهم فى أولى مراحل التعليم دون داع، وتزداد الهوة فى حصص التربية الدينية التى يتم فيها فصل الطلاب المسلمين عن زملائهم المسيحيين ليأخذ كل فريق المنهج الخاص به لتعزز مرة أخرى فكرة الاختلاف والفصل بين الجميع. وتظهر مسميات فرعية ليشير الرفاق إلى رفقائهم بمسمى «أنتم لديكم...» «ونحن لدينا...». ثم يستفحل الجهل بين الجميع فتستشرى حالة العداء التى أصبحت خير وسيلة لمن يريد إشعال نار الفتنة بين أفراد أى مجتمع، لتعلوا إدعاءات التفرقة والاضطهاد وغيرهما. والسؤال الآن ما هو الحل وقد بدا أن كل اتجاه يتحفز لغيره، وأن كل مذهب يكّفر غيره، وكل لون يشمئز من مغايره! بلا شك أن الحل هو بث فكرة المواطنة فى عقل الجيل الجديد مرة أخرى منذ الصغر أن يتعلم الطالب أنه مواطن وأن زميله مواطن مثله ولا يتحتم عليه أن يكون صورة طبق الأصل منه لا فى اللون ولا العقيدة ولا فى التوجه الفكرى. يجب أن يدرك الجميع أن ما يضمن استمرارية الحياة والوجود فى أى مجتمع هى فكرة الاختلاف التى تعنى التكامل والتعاون ضمن إطار فكرة الدولة الأم التى تستطيع أن تستعيد كل أبنائها ببعض الاهتمام بالمناهج الدراسية، واستغلالها فى تنشئة جيل له ذاكرة تستوعب تاريخه القديم كهوية ثابتة تحميه من الانجذاب أو الوقوع تحت تأثير التيارات التغريبية
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1749.


No comments: