ساراماجو وشجرة الزيتون
مابين القلم والحياة اليومية والمواقف الثابتة مسافة تتسع وتضيق بقدر قد يتوج الكاتب فيجعله نبيا، أو يهوى به إلى صفوف المنافقين الذين يكتبون بلا معرفة ويعيشون ويموتون وهم فى نفس الحيز الضيق لا يتجاوزون شئونهم الصغيرة التى يشاركهم فيها حتى الحيوانات الضالة التى لا هم لها إلا التنافس على ما يحفظ لهم الحياة والنوع . ولكن إن استطعت أن تحتفظ بهذا الطفل داخلك ، وإن نجحت فى أن تتنفس ما تكتب، وتكتب ما تحياه ، وتموت فتكتب موتك زيتونا وفكرا لا يقبل المساومة، أنت إذن ساراماجو!!.
عندما مات جده جيرونيمو، نعاه إلى زيتونة: «ذهب إلى حديقة بيته، هناك بضع الأشجار، أشجار تين وزيتون، ذهب إليها واحدة واحدة واحتضن الأشجار ليقول لها وداعا، لأنه كان يعرف أنه لن يعود، إن رأيت شيئا كهذا وإن عشته ولمْ يترك فيك ندبا إلى آخر العمر، فإنك رجل بلا إحساس».
وعندما مات جوزيه ساراماجو كان قد أوصى بجزء من رماده إلى زيتونة أيضا حيث تضمنت مراسم الجنازة إحراق جثتة فى مقابر لشبونة على أن يمنح نصف الرماد الناتج الى قرية «أزينهاجا» التى عاش فيها طفلا، والنصف الآخر يرش عند جذر شجرة زيتون فى حديقة منزله فى لانزروت التى كانت منفاه طيلة الـ 17 عاما الأخيرة من حياته.
ولد وجوزيه ساراماجو، فى 16 نوفمبر 1922 بمنطقة أريناغا بوسط البرتغال لعائلة من فقراء المزارعين، مارس حرفة الحدادة والميكانيكا فى الصغر، وعمل بالترجمة والنشر، وبدأ حياته كشاعر فأصدر ديوانين شعريين بعنوان «قصائد ممكنة»، و»ربما فرح» ثم اتجه للرواية وكانت البداية بروايته «أرض الخطيئة» والتى نشرها عام 1947، وفى عام 1982 قدم روايته «مذكرة الدير» التى كانت أولى خطواته فى طريق الشهرة ، وكتب أيضا العمى، عام وفاة ريكاردوريس، قصة حصار لشبونة، كل الأسماء، الرجل المنسوخ، انقطاعات الموت ، الطوف الحجرى ، و رحلة الفيلة».
عاش ساراماجو ومات بعقلية الطفل المشاكس الذى يتوق للتمرد والتجريب كارها للظلم رافعا صوته ومشهرا قلمه مناصرا للمقهورين فى كل مكان ، وجاهد ليحتفظ بهذا الطفل داخله : « دائماً حملت فى داخلى الطفل الذى كنت والآن لا يزال لذلك الطفل الأهمية نفسها التى كانت له عندما وجد نفسه وحيداً وسط الريف ناظراً إلى الأشياء ومستكشفاً العالم من حوله « . هذا الطفل هو نفسه الذى جعله دوما ساراماجو الذى عرفناه مشاكسا لا يخاف الكبار فيصف فى كتابه «الدفتر» الرئيس السابق «بوش» براعى البقر الذى ورث العالم وظن مخطئا أنه قطيع من الماشية ، ويتهكم على رئيس الوزراء الإيطالى سيلفيو برلسكونى غير مصدق أنه خرج من نفس البلد التى خرج منها الموسيقار فيردى. وأكثر من هذا نجده فى «الدفتر» الذى اشتمل على مقالاته وتدويناته التى نشرها على مدونته منفعلا ومتفاعلا مع الأحداث الجارية على مدار عام ( منذ ديسمبر2008 وحتى أغسطس2009). بلا تردد لبى دعوة الشاعر الكبير الراحل محمود درويش لزيارة الضفة الغربية وقطاع غزة عام2002 ضمن وفد اتحاد الكتاب العالمى، ويكتب بعدها رأيه الشجاع الداعم للحق العربى فى التواجد على أرضه ومهاجما كل الاعتداءات اللا إنسانية. ويكتب أيضا مهاجما العدوان على جنوب لبنان في2006 ، و قصف غزة في2009.
ويتمرد على الأفكار المتوارثة فيكتب مثلا ليبرئ قابيل من قتل أخيه هابيل فى راويته «قابيل»، ويكتب رواية»الإنجيل بحسب يسوع المسيح» مشاغبا ومتحديا للفكر اللاهوتى واضعا بصماته الأدبية والفكرية فيها والتى لاقت هجوما شديدا من الكنيسة الكاثوليكية البرتغالية والفاتيكان فيرحل إلى أسبانيا ويعيش مع زوجته الأسبانية «بيلا ديل ريو» حتى آخر أيامه فى جزيرة «لانزارتو» بجزر الكانارى ويخلق عالما من صنعه بعيدا عن آلهة المنع والمصادرة لأفكاره ومواقفه الصلدة المغايرة لموقف الباقين الخائفين الذين يكتفون بالمراقبة عن بعد . بل يتمرد على الحدود الجغرافية وطبقية التصنيف والمصير الحتمى والأقدار التى نعتقد أننا لا نستطيع تغييرها أو التحكم فيها فيلجأ إلى مزج العبثية والفانتازيا بالواقعية، فيفصل شبه الجزيرة الإيبيرية عن أوروبا ويجعلها تسبح عائمة فى المحيط الأطلسى فى «الطوف الحجرى»، التى نشرت عام 1986، وفى روايتيه «العمى» و«البصيرة» يصاب بلد بأكمله بالعمى، وعبث بفكرة الموت فى «انقطاعات الموت» مفترضا غياب الموت عن مدينة ما، وكيف يكتشف أهلها أهمية الموت فى حياتهم.
عاش ساراماجو ينشد السلام ويطالب به للجميع ولذلك لم يكن غريبا أن يوصى بأن يتوحد مع شجرة زيتون وأن يصبح وقودها يضيىء زيتها . ساراماجو شجرة الزيتون ، أو هذا الرماد وإن مات فقد تحول وأصبح جزءا من الكون السرمدى تستطيع أن تستنشقه وتتنسمه فتخلد معه
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1759 .
مابين القلم والحياة اليومية والمواقف الثابتة مسافة تتسع وتضيق بقدر قد يتوج الكاتب فيجعله نبيا، أو يهوى به إلى صفوف المنافقين الذين يكتبون بلا معرفة ويعيشون ويموتون وهم فى نفس الحيز الضيق لا يتجاوزون شئونهم الصغيرة التى يشاركهم فيها حتى الحيوانات الضالة التى لا هم لها إلا التنافس على ما يحفظ لهم الحياة والنوع . ولكن إن استطعت أن تحتفظ بهذا الطفل داخلك ، وإن نجحت فى أن تتنفس ما تكتب، وتكتب ما تحياه ، وتموت فتكتب موتك زيتونا وفكرا لا يقبل المساومة، أنت إذن ساراماجو!!.
عندما مات جده جيرونيمو، نعاه إلى زيتونة: «ذهب إلى حديقة بيته، هناك بضع الأشجار، أشجار تين وزيتون، ذهب إليها واحدة واحدة واحتضن الأشجار ليقول لها وداعا، لأنه كان يعرف أنه لن يعود، إن رأيت شيئا كهذا وإن عشته ولمْ يترك فيك ندبا إلى آخر العمر، فإنك رجل بلا إحساس».
وعندما مات جوزيه ساراماجو كان قد أوصى بجزء من رماده إلى زيتونة أيضا حيث تضمنت مراسم الجنازة إحراق جثتة فى مقابر لشبونة على أن يمنح نصف الرماد الناتج الى قرية «أزينهاجا» التى عاش فيها طفلا، والنصف الآخر يرش عند جذر شجرة زيتون فى حديقة منزله فى لانزروت التى كانت منفاه طيلة الـ 17 عاما الأخيرة من حياته.
ولد وجوزيه ساراماجو، فى 16 نوفمبر 1922 بمنطقة أريناغا بوسط البرتغال لعائلة من فقراء المزارعين، مارس حرفة الحدادة والميكانيكا فى الصغر، وعمل بالترجمة والنشر، وبدأ حياته كشاعر فأصدر ديوانين شعريين بعنوان «قصائد ممكنة»، و»ربما فرح» ثم اتجه للرواية وكانت البداية بروايته «أرض الخطيئة» والتى نشرها عام 1947، وفى عام 1982 قدم روايته «مذكرة الدير» التى كانت أولى خطواته فى طريق الشهرة ، وكتب أيضا العمى، عام وفاة ريكاردوريس، قصة حصار لشبونة، كل الأسماء، الرجل المنسوخ، انقطاعات الموت ، الطوف الحجرى ، و رحلة الفيلة».
عاش ساراماجو ومات بعقلية الطفل المشاكس الذى يتوق للتمرد والتجريب كارها للظلم رافعا صوته ومشهرا قلمه مناصرا للمقهورين فى كل مكان ، وجاهد ليحتفظ بهذا الطفل داخله : « دائماً حملت فى داخلى الطفل الذى كنت والآن لا يزال لذلك الطفل الأهمية نفسها التى كانت له عندما وجد نفسه وحيداً وسط الريف ناظراً إلى الأشياء ومستكشفاً العالم من حوله « . هذا الطفل هو نفسه الذى جعله دوما ساراماجو الذى عرفناه مشاكسا لا يخاف الكبار فيصف فى كتابه «الدفتر» الرئيس السابق «بوش» براعى البقر الذى ورث العالم وظن مخطئا أنه قطيع من الماشية ، ويتهكم على رئيس الوزراء الإيطالى سيلفيو برلسكونى غير مصدق أنه خرج من نفس البلد التى خرج منها الموسيقار فيردى. وأكثر من هذا نجده فى «الدفتر» الذى اشتمل على مقالاته وتدويناته التى نشرها على مدونته منفعلا ومتفاعلا مع الأحداث الجارية على مدار عام ( منذ ديسمبر2008 وحتى أغسطس2009). بلا تردد لبى دعوة الشاعر الكبير الراحل محمود درويش لزيارة الضفة الغربية وقطاع غزة عام2002 ضمن وفد اتحاد الكتاب العالمى، ويكتب بعدها رأيه الشجاع الداعم للحق العربى فى التواجد على أرضه ومهاجما كل الاعتداءات اللا إنسانية. ويكتب أيضا مهاجما العدوان على جنوب لبنان في2006 ، و قصف غزة في2009.
ويتمرد على الأفكار المتوارثة فيكتب مثلا ليبرئ قابيل من قتل أخيه هابيل فى راويته «قابيل»، ويكتب رواية»الإنجيل بحسب يسوع المسيح» مشاغبا ومتحديا للفكر اللاهوتى واضعا بصماته الأدبية والفكرية فيها والتى لاقت هجوما شديدا من الكنيسة الكاثوليكية البرتغالية والفاتيكان فيرحل إلى أسبانيا ويعيش مع زوجته الأسبانية «بيلا ديل ريو» حتى آخر أيامه فى جزيرة «لانزارتو» بجزر الكانارى ويخلق عالما من صنعه بعيدا عن آلهة المنع والمصادرة لأفكاره ومواقفه الصلدة المغايرة لموقف الباقين الخائفين الذين يكتفون بالمراقبة عن بعد . بل يتمرد على الحدود الجغرافية وطبقية التصنيف والمصير الحتمى والأقدار التى نعتقد أننا لا نستطيع تغييرها أو التحكم فيها فيلجأ إلى مزج العبثية والفانتازيا بالواقعية، فيفصل شبه الجزيرة الإيبيرية عن أوروبا ويجعلها تسبح عائمة فى المحيط الأطلسى فى «الطوف الحجرى»، التى نشرت عام 1986، وفى روايتيه «العمى» و«البصيرة» يصاب بلد بأكمله بالعمى، وعبث بفكرة الموت فى «انقطاعات الموت» مفترضا غياب الموت عن مدينة ما، وكيف يكتشف أهلها أهمية الموت فى حياتهم.
عاش ساراماجو ينشد السلام ويطالب به للجميع ولذلك لم يكن غريبا أن يوصى بأن يتوحد مع شجرة زيتون وأن يصبح وقودها يضيىء زيتها . ساراماجو شجرة الزيتون ، أو هذا الرماد وإن مات فقد تحول وأصبح جزءا من الكون السرمدى تستطيع أن تستنشقه وتتنسمه فتخلد معه
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1759 .
1 comment:
أشكرك على مقالاتك :) حقاً رائعة ...
Post a Comment