ما إن يطل أحد المثقفين علينا من خلال برنامج تليفزيونى أو مقال صحفى حتى تعلو نبرة النقد للحال المتردى للثقافة وما آل إليه حال الثقافة والأدب والأدباء فى العالم العربى. الكبارالذين يعتبرون أنفسهم الممثل الوحيد المعبر عن الأصالة يهاجمون الشباب، والشباب الذين يظنون أنهم يمثلون حركة التجديد والتطور، يتهمون الكباربمحاولة النيل منهم والتقليل من شأنهم، أنصار القصة ينتصرون لها فى مواجهة الرواية، والروائيون يتهمونهم بقصر النفس وانعدام الخبرات الحياتية التى يقوم عليها عصب الكتابة الروائية. فريق يعلن انتهاء زمن القصة والآخر ينتحب على زمن الرواية، شعراء يتغزلون فى قصيدة النثر وآخرون يستجيرون بالمتنبى والفرزدق. وفى المجمل تحول الأمر إلى ما يشبه الظاهرة، فالجميع ينتقد ويهاجم الوضع الراهن. الجميع قد تلبس دور المثقف الحقيقى، وتقلد دور المصلح والمرشد، وتخيل أنه الوحيد الذى يفهم، ووحده القادر على اقتراح الحلول، وعلى الجميع الامتثال لتعاليمه المقدسة. والسؤال الذى يطرح نفسه ما السبب أو الأسباب التى أدت إلى تدهور المشهد الثقافى العربى بصورة عامة؟ وإذا كان الجميع ينتقدون الحال فمن المخطئ إذن؟ أليس المشهد الثقافى هو مجموع كل هؤلاء الذين ينتقلون من برنامج إلى آخر، ومن فضائية إلى أخرى بنفس البكائية على أطلال ثقافة ساهموا هم أنفسهم فى تدهورها عندما تركوا الشأن العام والقضايا الكبرى، وانشغلوا بجوائز ومناصب ساهمت فى تقوقعهم داخل دائرة ضيقة بعيدة عن الواقع الثقافى؟ ليتفاجأوا بعد ذلك مثل غيرهم بأن هناك من ظهر وكبر كنبات الهالوك دون وجه حق ودون موهبة حقيقية، فقط لأن كل مميزاته أنه من ذوى الحناجر الصلدة التى لا تكل ولا تمل الحديث، ويدركوا متأخرا أن هناك العديد من الروافد المستحدثة للثقافة قد تم استنساخها فجاءت كالمسخ لا تعبر عن فكرة ولا عن مضمون ولا ذوق، ولا تحتاج إلى جهد أو معرفه ولذلك من الممكن أن نطلق عليها ثقافة البيض المسلوق أو التيك أوى. ومؤخرا ظن بعض المثقفين الذين ضاقوا بالوضع الراهن أن إصلاح الشأن الثقافى يكمن فى عقد قمة ثقافية لبحث الحالة المتردية التى وصلت اليها الثقافة العربية، ومن أجل البحث والتنقيب عن وسائل وحلول سريعة للحفاظ على الخصوصية الثقافية للدول العربية وثقافتها المحلية فى مواجهة شبح العولمة. وكل هذا بالطبع أهداف نبيلة وعناوين براقة تصلح كمانشيتات دعائية لا يختلف عليها أحد، ولكن ماذا بعد انتهاء القمة؟ ومن بيده فى الواقع وقف شبح اندثار القيم والثقافة العربية الأصيلة؟ وهل لو اجتمع كل الكبار من ساسة وزعماء ورموز ثقافية، هل بيدهم أن يقولوا للمستحيل أن كن فيكون؟ والغريب فى الأمر أنه فى الوقت الذى ينادى فيه الجميع بحرية الرأى والتعبير والنشر والتخلص من الرقابة والمركزية، تخرج نفس الأصوات تهلل وتبارك و تروج لحتمية عقد قمة ثقافية يضعون فيها الشأن الثقافى بجوارغيره من المسئوليات التى تضطلع بها الحكومات، وتمتلئ بها أجندات الرؤساء ورؤساء الوزارات المكتظة بالعديد من المسئوليات والتى طالما تعرضوا للانتقاد بسببها. والمدهش بالفعل أن يعتبر بعض المثقفين أن هناك أملاً كبيراً - إن لم يكن الوحيد – فى نتائج القمة،هذا فى الوقت الذى يعلو فيه صوت العديد من الأدباء مختلفين فى جدوى وأهمية انعقاد مؤتمر واحد سنوى يحضره المثقفون فى مصر، هذا إن تجاوزنا حال المؤتمرات الإقليمية وأفرع الهيئات الثقافية التى تعقد هنا وهناك بلا جدوى فى إحداث حالة من الحراك الاصلاحى فى المشهد الثقافى الذى ينتقده الجميع. من الواضح أن هناك اتجاهاً يتنامى فى الخفاء يهدف إلى التنصل من المسئولية بإلقائها على مائدة رؤساء الدول أو الوزراء. وهذا فى حد ذاته اعتراف ضمنى، بل اعتراف فج بعدم جدوى كل ما تم من مؤتمرات وندوات وتظاهرات أدبية وثقافية فى كل الدول العربية أى أنه إعلان أخير، ورفع راية بيضاء من الأدباء والمثقفين المتحمسين للقمة اقرارا بعجزهم أمام الجميع. وسواء أدرك هؤلاء دورهم أم لا فمن البديهى والمؤكد أن شأن الثقافة هو شأن خاص بالمثقفين أنفسهم، وعليهم الاعتراف بأنهم جزء من المشكلة التى طالما برعوا فى انكار وجودها، وحاولوا دوما إلقاء اللوم على غيرهم. عليهم أيضا أن يؤمنوا بأن الحل بيدهم هم، لا بيد قمة ولا مؤتمر يتم عقده فى أيام معدودات ثم ينتهى بمجموعة توصيات فى كتاب أنيق يوضع على الرف وينتهى الشو الإعلامى الذى سبق وصاحب حضور وغياب أسماء بعينها. وإذا تجاوزنا اشكالية الاتكال على عقد القمة العربية الثقافية كحل أخير للأزمة، ونظرنا إلى الأهداف المراد العمل عليها فى القمة ومنها الدفاع عن الخصوصية الثقافية للدول العربية فى مواجهة العولمة ولتدعيم عناصر الثقافة العربية فى مواجهة الطوفان الاعلامى والثقافى القادم من الخارج نجد أن هذا الهدف تأخر كثيرا جدا، فقد تلاشى مسمى الخصوصية فى الثقافة أو الأدب أوالفكر بعد أن أصبح فضاء الانترنت مفتوحا أمام الجميع للقراءة والاضطلاع والبحث، وتجاوز مفهوم الثقافة الممقصور على الآداب والفنون لتشمل كل نواحى سلوك وعادات الانسان العربى الذى وجد نفسه فى مهب الريح الفضائى والنتى وما خلفاه من تغيرات فى الموروث القيمى والثقافى، ثم جاء الأدباء والمثقفون ليعززوا هذا التغيير بنوعية الكتابة التى اصطلح على تسميتها أدب الهامش، أو أدب المسكوت عنه خاصة فيما يتعلق بالتابوهات الثلاثة، واللجوء إلى ما شذ عن العرف العام كنوع من التجريب والتجديد. وفى النهاية ننادى بقمة ثقافية لحل الأزمة، فقط لنجد ما ننتقده بعد ذلك ولتعمل الفضائيات وتعلو الانتقادات من جديد
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1748.
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1748.