Sunday, April 04, 2010

القراءة والكتاب المدرسى

القراءة والكتاب المدرسى
منذ زمن ليس بالبعيد كان الكتاب قبلة ومنارة لمن يريد المعرفة، وكان الحصول على كتاب يفوق أهمية الحصول على وجبة تسد جوع معدة لا تكف عن الطحن، وكانت القراءة هى الهواية التى إن سألت أحدهم عنها لأجابك بتلقائية:«هوايتى القراءة والرسم وكتابة الشعر والقصة». وتمر الأيام سريعا ويزيح التليفزيون الكتاب عن عرشه، وتنتشر الفضائيات كالسرطان لتجذب القراء الذين يستغنون عن كل حواسهم من أجل حاسة جديدة لذيذة ومريحة اسمها «موش هاتقدر تغمض عنيك». وتسأل نفس السؤال عن الهواية وتكون الإجابة هذه المرة «مشاهدة التليفزيون». ويتوارى الكتاب وتهدأ المطابع وترتد إلى عصر ما قبل محمد على ومطبعة بولاق. ومع ضياع قيمة الكتاب والقراءة ضاعت الكثير من القيم وتشتت معها الموروث القيمى الذى توارى خلف أفلام العنف والجنس المستوردة. وبالتدريج وبهدوء الثعابين ظهرت مجموعة من السلوكيات الطارئة لم تلبث كثيرا حتى تحولت إلى ظواهر مثل التحرش الجنسى والتطرف الدينى. وعلى التوازى تفشى نوع جديد من القراءة يمكن أن نطلق عليه «قراءة هروبية ارتدادية» أو «قراءة العدم» كتوصيف دقيق لحالة التملص من كل ما يتعلق بالحياة وشئونها، وارتباطها بالماورائيات أو الغيب كعذاب القبر أو المعجزات والكرامات للأولياء والقديسين كنوع من الهروب من المتناقضات المعاشة نتيجة انفتاح تام ومفاجئ على العالم دون أن يقابله انفتاح فكرى يمكن الإنسان من استقبال ثقافة الغير المختلفة بروح محايدة، فينتقى منها ما يتواءم مع بيئته ويترك ما لا يناسبه. لم يجد الشاب العربى من يأخذ بيده ليعلمه سياسة الانتقاء ويدربه على أن يكون مستوعبا لا مقلدا، منتجا لا مستهلكا، بل وجد نفسه فى موقف المتهم إن أخذ موقف المقلد لأشياء سطحية لم تتعد تسريحة شعر أو ارتداء ملابس الهيبز وغيرها مما هو بعيد تماما عن العلم والمعرفة والانتاج والتصنيع. وفى النهاية وقف الشاب صريع تطلعه إلى هذا العالم البراق وهو عار من موروثه وتاريخه وقيمه وفضائله، وبهت داخله مفهوم الخطيئة المزروع فى ضميره الفطرى. ومع تكرار حوادث العنف والتحرش ينبغى أن يكون هناك من يشغله شأن الشباب وهم شعلة المستقبل، ومن الأفضل أن تتولى وزارة التربية والتعليم هذا الدور فبيدها الآن بناء الوطن من جديد والعبور بأبنائه إلى شاطئ الأمان مثلما عبر آباؤهم قناة السويس وصنعوا تاريخ مصر الحديث فى 1973. من الممكن جدا بل من المنطقى أن تبدأ رحلة العودة نحو استعادة هوية شبابنا من أولى مراحل التعليم ومن خلال الكتاب المدرسى نفسه الذى جاء فى مقدمة الكتب التى يقرأها المصريون. فقد أشارت الإحصاءات الواردة فى التقرير:«ماذا يقرأ المصريون؟ «الصادر عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصرى، إلى أن حوالى 88% من الأسر المصرية لا يقوم أى من أفرادها بقراءة أى نوع من أنواع الكتب بخلاف الكتب المدرسية، وترتفع هذه النسبة فى الريف مقارنة بالحضر، أما الشباب الذين يقرأون فتستحوذ الكتب الدينية على النصيب الأكبر من اهتمامهم وذلك بنسبة 64.7%، تليها الكتب العلمية والتاريخية بنسب متقاربة 35.5% و34.2% ثم تأتى الكتب الرومانسية والقصص والشعر بنسبة 31.8% و30.7% لكل منهما بينما بلغت نسبة الكتب الدراسية 26.4%. والقراءة الإيجابية لما جاء فى التقرير، تأتى فى صالح الكتاب المدرسى وسكان الريف. فارتفاع نسبة القراءة بين سكان الريف ربما نفسرها بأن الكتاب ولو كان مدرسيا يمثل نقلة كبيرة وخطوة نحو الانتقال إلى حياة المدن البراقة التى يشاهدونها على شاشات التليفزيون وما تتيحه من خيارات نظيفة فى الملبس والمشرب ونوع التعليم. إذا فارتفاع نسبة القراءة فى الريف تأتى نتيجة رغبة عارمة نحو مستقبل أفضل مفتاحه الحصول على شهادة تلو شهادة، أملا فى الحصول على مؤهل جامعى كمسوغ للتعيين فى وظيفة بعيدا عن الأرض الزراعية وروث بهائمها، وكل هذا مرتهن بالكتاب المدرسى لا القراءة الحرة، وليس بحثا عن الثقافة فى حد ذاتها فما جدوى الثقافة وتنويرالعقل لو وجد الإنسان نفسه محاصرا فى الريف بالمرض والتلوث والعزلة؟ وخاصة بعد أن أصبح مفهوم الثقافة نفسها مبهماً غامضاً ومقصورا على ما تقدمه الفضائيات من قشور زائفة من المعارف من خلال برامج الصوت العالى والصراخ الذى بات سمة جاذبة للمشاهدين والمتابعين والمعلنين من أصحاب السلع الاستهلاكية. والسؤال المهم الذى يجب أن يثيره فعلا المهتمون بشأن بناء الإنسان المصرى خاصة والعربى عامة هو كيف يمكن استغلال الكتاب المدرسى لبناء الإنسان الجديد المستقبلى المتشبع بقيم مجتمعه؟ كيف نستثمر الكتاب المدرسى لننتج جيلا جديدا من المتعلمين المتشربين بقيم واحدة تصب فى خانة الوطن والمواطنة لا الطائفة والطائفية؟. كيف نُعلى من قيمة الكتاب المدرسى إلى الحد الذى يجعل الطالب يحتفظ به على أرفف مكتبته لا أن يمزقه ويدهسه بقدمه انتقاما بعد انتهاء الامتحانات؟. من المؤكد أن كل الإجابات ستدورحول الاهتمام بالمحتوى الدراسى وكيفية تقديمه، لا بكمية المعلومات التى يتم تكديسها تكديسا فى الكتاب الذى أصبح فى مفعوله ووقعه على نفسية الطالب مثل آلة التعذيب فى حجمه وطلاسمه التى لا تتماشى مع البيئة التى يعيش فيها الطالب، ولا مع خصائص المرحلة العمرية التى يمر بها، ولا مع كثافة الفصول الحالية. يجب أن تكون هناك أهداف واضحة ومحددة وثابتة ولسنوات قادمة للتعليم، توضع على ضوئها المناهج الدراسية مراعية الكيف لا الكم من أجل بناء توجه وفكر معين لدى المتعلم وهو المنتج النهائى، أوالمخـرَج المستهدف من عملية متكاملة لها مدخلات يجب الاهتمام بجودتها من أجل هذا المنتَج الفريد من نوعه، كمنتج من لحم ودم وفكر ومشاعر اسمه الإنسان.
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1745


No comments: