Monday, April 12, 2010

كفافيس عاشق الإسكندرية


«
يا جميلة الأوليمب لا تتركى الإسكندرية» جملة بسيطة قالها كفافيس لكريستين فى «إيليت» كانت كافية لتقرر الصغيرة قضاء حياتها كلها - والتى قاربت التسعين عاما - فى الإسكندرية، وتشترى من أجله «إيليت»، وتجعله مذبحا مقدسا لكفافيس، تزينه بأقانيمه وصوره الخاصة على أمل استدعاء روحه فى أرجاء المقهى اليونانى الذى شهد أوج أيام الإسكندرية الكوزموبولتيانية التى صهرت كفافيس اليونانى الأصل، الإنجليزى الجنسية، المصرى الصميم فى روح واحدة لشاعر فريد رأى فى الإسكندرية «إيثاكا» خاصة به، فهى المنتهى والسدرة التى كلما رحل عنها نادته ليلبى النداء حتى النهاية لأنها كانت قوت الأمل الذى لولاه ما استطاع التغلب على رحلة التيه عودة إلى الإسكندرية الجميلة التى نالها الخراب:
(أنتَ لن تجدَ أرضاً جديدة.. ولا بحراً جديداً ستلاحقكَ هذه المدينة دوماً ستسكنُ فى نفس الشوارع..يشيب شعر رأسِك فى نفسِ المنازل سوف تنتهى هنا دائماً إنس أى مكان آخر. فأنتَ لا تملك سفينة ولا طريق وكمّا خرّبت حياتك هنا.. فى هذا الركن فهى خرابٌ أينما ذهبت.
وتصبح الإسكندرية مرادفا لاسم قسطنطين كفافيس الذى ولد فى 29 أبريل 1863 ورحل أيضا فى 29 أبريل من عام 1933، لتلتقى ذكرى مولده مع ذكرى وفاته، تماما مثلما اتحدت الآلهة مع البشر فى أشعاره. مولد وموت فى ذات الشهر وفى نفس اليوم -كما ذكر بعض أصدقائه - وكأنه دخل وخرج من نفس الباب فى نفس اليوم وكأنها إشارة إلى أن الحياة قصيرة وأن الانسان فيها تائه لا يتجاوز الفكرة التى عبر عنها كفافيس قبيل وفاته حين فقد القدرة على النطق فرسم دائرة وفى منتصفها نقطة على ورقة بيضاء. عشق كفافى الاسكندرية فلم يطق رؤيتها بعد وصول البرابرة عام 1882وتعرضها للقصف الذى شوه صورة الجميلة فرحل إلى القسطنطينية، ويبقى ثلاث سنوات تتبلور فيها ثقافته وشخصيته ليعود إلى الإسكندرية التى طالتها يد الدمار والإهمال. لم يطق أن يصور هذا التشوه فى أشعاره كما فعل لورانس داريل فى رباعية الإسكندرية والتى تجلت فيها الكثير من المشاهد تصف الحالة المزرية للشوارع والأحياء السكندرية. أما كفافيس وإن كانت الإسكندرية أيضا هى محور أشعاره فقد حاول الهرب من مشاهد الخراب. جاءت أعمال كفافيس تستدعى الأساطير والآلهة التى كانت لا تكتفى بمكانها العلوى، بل كانت تنزل، تتجول وتمرح مع البشر لتمتزج الطبيعتان معا، فتجىء فى قصائده الحكمة والعبث والرغبة والشبق متجاورات بلا تنافر:(وعلى مدى الزمن، ولكثرة ما لعبت دور ناركيسوس وهرميس، نضبت الدماء فى عروقى، وأصابنى الدمار.يا أيها المسافر، إذا كنت سكندريا فلن تلومنى. أنت تعرف حمية حياتنا هنا وما بها من عواطف متأججة وشبق بهيج. لم يكن كفافيس ملاكا ولكنه كان بشرا ينظر من نافذة بيته ويقول «أى مكان أجمل من هذا يمكن أن أستقر فيه؟ مكان للهو، وكنيسة للغفران، ومستشفى يموت فيه «وكل هذا وجده فى الإسكندرية وحدها حيث إلتقت فى نظره كل متع الدنيا وخلاص الآخرة على مرمى بصره. عاش كفافيس حياته ومات مستوحشا كل المدن، تائقا فى الوصول إلى المدينة المثل إلى «إيثاكا» البعيدة التى تهب روعة الترقب، وتمنح لذة المعرفة والاكتشاف لأشياء جديدة وخبرات متنوعة. كتب كفافيس عن الإسكندرية التى احتفلت به فى ربيع الشعراء، فكيف يكون هناك ربيع بلا شعر؟ وكيف يكون هناك شعر فى الإسكندرية بلا كفافيس؟ فى مكتبة الإسكندرية، جلس الجميع كلوحة من فسيفساء المكعبات التى كانت الإسكندرية أول مكان تنشأ فيه قبل أن تنتقل منها إلى باقى العالم الهلينستى لتشير إلى طبيعة الإسكندرية كمدينة متفردة قادرة على احتواء كل الأطياف والجنسيات، لا تصهرهم، بل تجعلهم يقفون معا، يشِّكلون لوحة واحدة متناسقة، وفى نفس الوقت تعترف بحق كل فرد فى أن يحتفظ بخصائصه التى يتفرد بها عن غيره. كان الجميع ينصتون لأشعار كفافيس، وأشعار أخرى بالعربية واليونانية، وفى كل مرة تنتهى قصيدة، تعلو الأكف بالتصفيق. رفيقتى اليونانية لم تكن تفهم العربية ولكنها طربت وهى تستمع إلى الشاعر الكبير عبد المعطى حجازى وهو ينشد شعرا عن أمه، فصفقت وهى تخبرنى أنها لا تفهم الكلمات ولكنها تشعر بالموسيقى الكامنة التى تتجاوز قيود الحروف. لم يكن مستغربا أن يلقى الشاعر الشاب عمر حاذق قصيدة يستدعى بها المتنبى بعربيته الفصحى بين جموع جاءت تتحدث لغة الشعر، اللغة الكونية الموحدة التى يفهمها الجميع، لغة كفافيس السكندرى الهوى والهوية
انتصار عبد المنعم
مجلة أكتوبر العدد1746.

No comments: