وتبقى كلمة «الثقافة» كما هى واسعة الانتشار سهلة اللفظ، ويبقى مفهومها غامضا ملتبسا، وهذا ما جعل بعض المثقفين ممن يهتمون بالشأن الثقافى يكتبون موضحين إشكالية المفهوم والتناول. ويأتى كتاب «الهجرة إلى الداخل» للناقد والكاتب الصحفى أحمد سماحة ليضم مجموعة من المقالات المعبرة عن تلك الإشكالية سواء فى مفهوم الكلمة نفسها أو فى الواقع الثقافى بوجه عام.ففى مقال «الثقافة المفهوم والأزمة» يشير سماحة إلى الخطأ الشائع الذى يقتصر فيه الاهتمام بالأفكار كترجمة وحيدة للثقافة أو أن يكون الكتاب والشعراء هم أهل الثقافة دون غيرهم. بل يدلل على تجاوز المعنى القاصر المتعلق بالأفكار ليشمل ما هو أوسع وأشمل مثل التراث سواء كان ماديا أو روحيا. يقول: «فبقدر ما يكتسب هذا الفرد من هذا التراث ويتفاعل معه تكون ثقافته وأسلوب حياته وفهمه للأشياء وموقفه منها- أى صلته بها- وبقدر ما يكون الوعى بكيفية نقل هذا التراث إلى الفرد- التعلم- وتوجيهه بقدر ما يكون وعياً لمفهوم الثقافة».يناقش الكاتب أيضا الحديث الدائر عن أزمة الثقافة يطرح بعده عدة أسئلة ليفتح باب النقاش من أجل بيان أسباب الأزمة وتحديد سبل مواجهتها. ولا ينتهى شأن الثقافة بانتهاء هذا المقال بل يمتد لمقال آخر تحت عنوان «قضيتان فى الفكر والثقافة»،مشيرا إلى ضياع الاهتمام بالقراءة كوسيلة من وسائل المعرفة وتكوين الهوية، ويذكر إحصائية هيئة اليونسكو لعام 80 التى ذكرت أن « أوربا الغربية التى يسكنها 4.5 فى المئة من سكان العالم، تقرأ 29 فى المائة من الصحف الصادرة فى العالم، و 45 فى المائة من الكتب التى يقرؤها العالم « بينما يبلغ تعدادنا كعرب أيضا 4.5 فى المائة من سكان العالم، ولا نقرأ ما يتجاوز نسبة (1 فى المائة) من الصحف، وأيضا (1 فى المائة) من إنتاج الكتب فى العالم. وتحت عنوان «الثقافة البصرية وإشكالية التلقى» ذكر أحمد سماحة أن التلقى البصرى أصبح من العناصر المهمة فى تشكيل الوعى لدى قاعدة واسعة من المتلقين الذين كانوا يواجهون صعوبة التلقى عن طريق الكلمة المطبوعة «..لكونه يملك التغير النوعى فى الخطاب الذى يبثه، وله طابعه التأثيرى المباشر، وجمالياته الخاصة، وقدرته الفائقة على الإيهام بالمصداقية، ولأنه يموج بالحركة التى هى سمة الحياة».وإذا كانت المقالات السابقة تتناول الثقافة فهناك غيرها تتناول المثقفين، ففى مقاله «الهجرة إلى الداخل» يذكر سماحة هجرة الكاتب الألبانى إسماعيل قدرى إلى باريس، تاركا وراءه فى وطنه رصيدا طويلا من الإبداعات والانجازات، وبعد أن كافح طويلا من أجل التغيير وحرية الإنسان، ترك كل هذا ليعيش هجرته فى باريس. وفى المقابل تأتى هجرة الكاتب السوفيتى الراحل سولجنستين التى اختارها لتكون هجرة أو عودة إلى الداخل بعد أن عاش فى المنفى طويلا ونال من الشهرة فى خارج بلاده ما نال. لا يعطى سماحة تفسيرات ولا مبرارات لموقف الكاتبين، بل يرصد الحالة «ليبقى السؤال لماذا؟ متأرجحا بين الداخل والخارج لا يجد الإجابة متى بقيت إنسانية الإنسان موضع انتهاك ومساومة».وعن جائزة «نوبل.. البريق واللعنة» يربط سماحة بين لعنة نوبل ولعنة الفراعنة فى المصير الحزين الذى كان من نصيب من نال الجائزة العالمية، فالشاعر الإيطالى جيوس كاردوكس الذى حصل عليها عام 1906 توفى بعد أربعة شهور، والروائى الإنجليزى جالسورنى توفى بعد شهرين من حصوله على الجائزة عام 1932، وسارتر مات بعد ستة أشهر، أما إرنست هيمنجواى الذى نال نوبل عام 1954 فقد انتحر بإطلاق الرصاص على نفسه، والروائى اليابانى كاواباتا ندم لأنه لم يرفض الجائزة عام 1968 وآثر الانتحار لأن الجائزة أصابته بعد أن نضب إبداعه وفقد القدرة على الكتابة، وألبير كامى الذى حصل على الجائزة عام 1957 دهمته سيارة وتوفى عام 1960، أما نجيب محفوظ الذى حصل عليها عام 1988 فقد تلقى طعنة سكين فى رقبته ثمنا لشهرته وإبداعه وحصوله على نوبل التى زادت من شهرته.وعلى هذا النهج تسير باقى مقالات الكتاب تناقش وتثير العديد من القضايا ذات التماس المباشر وغير المباشر مع الثقافة والمثقفين والأدب والنقد بل يتناول السينما «بين الروائى والتسجيلى» وهذا ما يثير فضولنا لنتعرف على النتاج الأدبى من شعر ونقد وكتب عن السينما وحوارات متنوعة حملت توقيع الكاتب.
فأحمد سماحة شاعر صدر له حديثا ديوان «خوف يرقبنى» باللغة العربية الفصحى والذى يُخيل إليك بعد الانتهاء من رحلة الغوص فى أحرفه وخلجاته أن الفصحى هى مجال سماحة الوحيد. ولكن من يعرف الشاعر عن قرب يعرف أنه يتمتع بلقب «مهندس القصيدة العامية» هذا اللقب الذى أطلقه عليه رفيق تجربته الشاعر الكبير محمد الشهاوى ليلتقطها بعد ذلك الراحل محسن الخياط ويكتب عن صاحب اللقب مرات عديدة متناولا عناصر التجديد فى قصائده. كانت أولى تجاربه العامية بعد نكسة 67 ليكتب: تبارك الوهاب/ اتفرفطت فى الصحرا شجرة اللبلاب/صار للبكا وطن/ صار للفجيعة كتاب/ واتقفلت بيننا/ وبين سينا الحبيبة/ ابواب.وهكذا من رحم اليأس تفتق ينبوع الشعر ليكتب بعدها قصيدة «حكاية الولد أحمد» ويحصل عنها على جائزة فى مسابقة رسمية كان يرأس لجنة تحكيمها الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور. يبتعد فترة ابتعاثه خارج مصر ليعود وقد تشعبت خلايا الثقافة لديه ليهتم بالنقد الأدبى والسينما فيكتب «الزمن فى السينما» و «السينما التسجيلية فى مصر». وعلى الرغم من كم القصائد التى كان ينشرها فى الصحف المصرية والعربية إلا أنه لم يهتم بجمعها كدواوين، ولكن الأصدقاء المقربين من الأدباء مثل محمد الشهاوى وعلى عفيفى وإبراهيم قنديل قاموا بجمع بعض أشعاره فى ديوان «مراية النار». ثم تتوالى الإصدارات ما بين شعر العامية والفصحى مثل «حكاية الولد أحمد» و «خوف يرقبنى».شارك أحمد سماحة فى تأليف 12 كتابا مع مجموعة من الكُتاب فى السعودية، وشارك فى لجان تحكيم للأعمال الأدبية فى السعودية والخليج، كما شارك فى العديد من المهرجانات العربية، ويرأس حاليا القسم الثقافى وقسم الرأى بصحيفة عربية.
مجلة أكتوبر العدد1727
مجلة أكتوبر العدد1727
No comments:
Post a Comment